النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى غَيْرِهِ حَقٌّ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ، بَاذِلٌ لَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ إلَّا مَا يُعْطِيه، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِهِ، لَزِمَهُ رَدُّهُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ عَلَيْهِ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ، بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ غَرَضٌ فِي الْعَيْنِ.
وَإِنْ أَتْلَفَهَا، أَوْ تَلِفَتْ فَصَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَكَانَ الثَّابِتُ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ تُقَاضَا، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، وَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ كَانَ مَانِعًا لَهُ لَأَمْرٍ يُبِيحُ الْمَنْعَ، كَالتَّأْجِيلِ وَالْإِعْسَارِ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا، لَزِمَهُ رَدُّهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ عِوَضُهُ إنْ كَانَ تَالِفًا، وَلَا يَحْصُلُ التَّقَاضِي هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَخَذَهُ فِي الْحَالِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ كَانَ مَانِعًا لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدَرَ عَلَى اسْتِخْلَاصِهِ بِالْحَاكِمِ أَوْ السُّلْطَانِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْأَخْذُ أَيْضًا بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَدَرَ عَلَى اسْتِيفَائِهِ مِنْ وَكِيلِهِ. وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِكَوْنِهِ جَاحِدًا لَهُ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ بِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ لَا يُجِيبُهُ إلَى الْمُحَاكَمَةِ، وَلَا يُمْكِنُهُ إجْبَارُهُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ نَحْوِ هَذَا، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ قَدْرِ حَقِّهِ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ جَعَلَ أَصْحَابُنَا الْمُحَدِّثُونَ لِجَوَازِ الْأَخْذِ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ هِنْدٍ، حِينَ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» . وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَتَخَرَّجُ لَنَا جَوَازُ الْأَخْذِ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، أَخَذَ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، تَحَرَّى، وَاجْتَهَدَ فِي تَقْوِيمِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ هِنْدٍ، وَمِنْ قَوْلِ أَحْمَدَ فِي الْمُرْتَهَنِ: يَرْكَبُ وَيَحْلُبُ، بِقَدْرِ مَا يُنْفِقُ، وَالْمَرْأَةُ تَأْخُذُ مُؤْنَتَهَا، وَبَائِعُ السِّلْعَةِ يَأْخُذُهَا مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ بِغَيْرِ رِضًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِخْلَاصِ حَقِّهِ بِعَيْنِهِ، فَلَهُ أَخْذُ قَدْرِ حَقِّهِ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَقَدَرَ عَلَى اسْتِخْلَاصِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمَا يَتَحَاصَّانِ فِي مَالِهِ إذَا أَفْلَسَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ حَقِّهِ إنْ كَانَ عَيْنًا، أَوْ وَرِقًا، أَوْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ عَرَضًا، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ أَخْذَ الْعَرَضِ عَنْ حَقِّهِ اعْتِيَاضٌ، وَلَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ إلَّا بِرِضًى مِنْ الْمُتَعَاوِضَيْنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: ٢٩] . وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ الْأَخْذَ بِحَدِيثِ «هِنْدٍ، حِينَ جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي. فَقَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيك
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute