وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا جَنَى جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْمَالِ تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ وَيُؤَدِّي مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: جِنَايَتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ. قَالَ عَطَاءٌ: وَيَرْجِعُ سَيِّدُهُ بِهَا عَلَيْهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إذَا قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً كَانَتْ كِتَابَتُهُ وَوَلَاؤُهُ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ، إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ سَيِّدُهُ.
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَجْنِي جَانٍ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ» وَلِأَنَّهَا جِنَايَةُ عَبْدٍ فَلَمْ تَجِبْ فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ كَالْقِنِّ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِأَدَاءِ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ سَوَاءٌ حَلَّ عَلَيْهِ نَجْمٌ أَوْ لَمْ يَحِلَّ.
وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عَنْ أَحْمَدَ وَالْمَعْمُولُ بِهِ فِي الْمَذْهَبِ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ قَوْلًا آخَرَ أَنَّ السَّيِّدَ يُشَارِكُ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ فَيَضْرِبُ بِقَدْرِ مَا حَلَّ مِنْ نُجُومِ كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا دَيْنَانِ فَيَتَحَاصَّانِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ.
وَلَنَا أَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ مِنْ الْعَبْدِ يُقَدَّمُ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، وَلِذَلِكَ قُدِّمَتْ عَلَى حَقِّ الْمَالِكِ وَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَغَيْرِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ هَاهُنَا، يُحَقِّقُهُ أَنَّ أَرْشَ جِنَايَتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ فِي عَبْدِهِ فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى عِوَضِهِ وَهُوَ مَالُ الْكِتَابَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ كَانَ مُسْتَقِرًّا، وَدَيْنَ الْكِتَابَةِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، فَإِذَا قُدِّمَ عَلَى الْمُسْتَقِرِّ فَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ مُسْتَقِرٌّ فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْكِتَابَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَقِرَّةً.
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَفْدِي نَفْسَهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ؛ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَقَلَّ فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ مُوجَبِ جِنَايَتِهِ وَهُوَ أَرْشُهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ بَدَلِ الْمَحِلِّ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْأَرْشُ، فَإِنْ بَدَأَ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَوَفَّى بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَإِلَّا بَاعَ الْحَاكِمُ مِنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَبَاقِيهِ بَاقٍ عَلَى كِتَابَتِهِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ فَلَهُ ذَلِكَ وَيَعُودُ عَبْدًا غَيْرَ مُكَاتَبٍ مُشْتَرَكًا بَيْنَ السَّيِّدِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ أَبْقَاهُ عَلَى الْكِتَابَةِ فَأَدَّى، عَتَقَ بِالْكِتَابَةِ وَسَرَى الْعِتْقُ إلَى بَاقِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ مُوسِرًا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ وَبَاقِيهِ رَقِيقٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ وَلَمْ يَفِ بِالْجِنَايَةِ إلَّا قِيمَتُهُ كُلُّهَا بِيعَ كُلُّهُ فِيهَا وَبَطَلَتْ كِتَابَتُهُ، وَإِنْ بَدَأَ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى سَيِّدِهِ نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ سَأَلَ الْحَاكِمَ فَحَجَرَ عَلَى الْمُكَاتَبِ ثَبَتَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ، وَكَانَ النَّظَرُ فِيهِ إلَى الْحَاكِمِ فَلَا يَصِحُّ دَفْعُهُ إلَى سَيِّدِهِ، وَيَرْتَجِعُهُ الْحَاكِمُ وَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَإِنْ وَفَّى وَإِلَّا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَاكِمُ حَجَرَ عَلَيْهِ صَحَّ دَفْعُهُ إلَى سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي حَقًّا عَلَيْهِ فَجَازَ كَمَا لَوْ قَضَى بَعْضُ غُرَمَائِهِ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ جَمِيعَ مَالِ الْكِتَابَةِ عَتَقَ وَيَكُونُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute