- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، كُلُّهَا بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ. وَلِأَنَّهَا حَالَةُ قُعُودِ الْإِمَامِ، فَكَانَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ مُتَابَعَتُهُ، كَحَالِ التَّشَهُّدِ.
فَأَمَّا حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ فَمُرْسَلٌ، يَرْوِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وَقَدْ فَعَلَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْآخَرِينَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ فِي هَذَا حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ، فَإِذَا ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ قَائِمًا صَلَّوْا قِيَامًا. فَأَشَارَ أَحْمَدُ إلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَنْ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ جَالِسًا، وَالثَّانِي عَلَى مَا إذَا ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ قَائِمًا، ثُمَّ اعْتَلَّ فَجَلَسَ، وَمَتَى أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَجَبَ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى النَّسْخِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ الْإِمَامَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالنَّاسِ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ الْإِمَامَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَاعِدًا. وَقَالَ أَنَسٌ: صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا فِي ثَوْبٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَا يُعْرَفُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ صَلَاةٌ إلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ الْحَدِيثَ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْإِمَامَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ: «مَا مَاتَ نَبِيٌّ حَتَّى يَؤُمَّهُ رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِهِ» . قَالَ مَالِكٌ: الْعَمَلُ عِنْدَنَا عَلَى حَدِيثِ رَبِيعَةَ هَذَا، وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الْإِمَامَ لَكَانَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وَرَاءَهُ صَفًّا. (١١٨٠) فَصْلٌ: فَإِنْ صَلَّوْا وَرَاءَهُ قِيَامًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ. أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ صَلَّى الْإِمَامُ جَالِسًا، وَاَلَّذِينَ خَلْفَهُ قِيَامًا. لَمْ يَقْتَدُوا بِالْإِمَامِ، إنَّمَا اتِّبَاعُهُمْ لَهُ إذَا صَلَّى جَالِسًا صَلَّوْا جُلُوسًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُمْ بِالْجُلُوسِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْقِيَامِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «إذَا صَلَّى الْإِمَامُ قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا، وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَلَا تَقُومُوا وَالْإِمَامُ جَالِسٌ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ فَارِسَ بِعُظَمَائِهَا. فَقَعَدْنَا» وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَلِأَنَّهُ تَرَكَ اتِّبَاعَ إمَامِهِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، أَشْبَهَ تَارِكَ الْقِيَامِ فِي حَالِ قِيَامِ إمَامِهِ. وَالثَّانِي: تَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ، فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَلِأَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لِلْقِيَامِ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ لَهُ الْقُعُودُ أَشْبَهَ الْمَرِيضَ إذَا تَكَلَّفَ الْقِيَامَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْجَاهِلِ بِوُجُوبِ الْقُعُودِ، دُونَ الْعَالِمِ بِذَلِكَ، كَقَوْلِنَا فِي الَّذِي رَكَعَ دُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute