للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا عَجِلَ عَلَيْهِ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ.» وَرَوَى الْجَمْعَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَنَذْكُرُ أَحَادِيثَهُمَا فِيمَا بَعْدُ، وَقَوْلُهُمْ: لَا نَتْرُكُ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ. قُلْنَا: لَا نَتْرُكُهَا، وَإِنَّمَا نُخَصِّصُهَا، وَتَخْصِيصُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ جَازَ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْإِجْمَاعِ، فَتَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا.

فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى الْجَمْعِ فِي الْأَخْبَارِ أَنْ يُصَلِّيَ الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا، وَالْأُخْرَى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ قَدْ جَاءَ الْخَبَرُ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُهُمَا فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَلِقَوْلِ أَنَسٌ: أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِين يَغِيبَ الشَّفَقُ. فَيَبْطُلُ التَّأْوِيلُ.

الثَّانِي، أَنَّ الْجَمْعَ رُخْصَةٌ، فَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ أَشَدِّ ضِيقًا، وَأَعْظَمِ حَرَجًا مِنْ الْإِتْيَانِ بِكُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِكُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا أَوْسَعُ مِنْ مُرَاعَاةِ طَرَفَيْ الْوَقْتَيْنِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْ وَقْتِ الْأُولَى إلَّا قَدْرُ فِعْلِهَا، وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا وَجَدَهُ كَمَا وَصَفْنَا، وَلَوْ كَانَ الْجَمْعُ هَكَذَا لَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَالْعَمَلُ بِالْخَبَرِ عَلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ إلَى الْفَهْمِ مِنْهُ (أَوْلَى) مِنْ هَذَا (التَّكَلُّفِ) الَّذِي يُصَانُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَمْلِهِ عَلَيْهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَفْهُومُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْجَمْعَ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ سَائِرًا فِي وَقْتِ الْأُولَى، فَيُؤَخَّرُ إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ سَعْدٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعِكْرِمَةَ، أَخْذًا بِالْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ جَوَازُ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ إلَى الْأُولَى، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ. قَالَ الْقَاضِي: الْأَوَّلُ هُوَ الْفَضِيلَةُ وَالِاسْتِحْبَابُ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ الْأُولَى مِنْهُمَا، جَازَ، نَازِلًا كَانَ، أَوْ سَائِرًا، أَوْ مُقِيمًا فِي بَلَدٍ إقَامَةً لَا تَمْنَعُ الْقَصْرَ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِمَا رَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ زَيْغِ الشَّمْسِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَهَا إلَى الْعَصْرِ، فَيُصَلِّيَهُمَا جَمِيعًا، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ، صَلَّى الظَّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ سَارَ، وَإِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْعِشَاءِ، وَإِذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>