قَوْله: " إذَا تُيُقِّنَ الْمَوْتُ " يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ حُضُورَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ التَّوْجِيهَ إلَى الْقِبْلَةِ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَاسْتَحَبَّهُ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَهْلُ الشَّامِ، وَإِسْحَاقُ، وَأَنْكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يُحَوِّلُوهُ إلَى الْقِبْلَةِ، قَالَ: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: نُحَوِّلُك إلَى الْقِبْلَةِ.
قَالَ: أَلَمْ أَكُنْ عَلَى الْقِبْلَةِ إلَى يَوْمِي هَذَا؟ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ: وَجِّهُونِي. وَلِأَنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ بِسَعِيدٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ، يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ بِمَوْتَاهُمْ، وَلِأَنَّ خَيْرَ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْخِرَقِيِّ أَرَادَ تَيَقُّنَ وُجُودِ الْمَوْتِ، لِأَنَّ سَائِرَ مَا ذَكَرَهُ إنَّمَا يُفْعَلُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ تَغْمِيضُ الْمَيِّتِ، فَإِنَّهُ يُسَنُّ عَقِيبَ الْمَوْتِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ: «إنَّ الرُّوحَ إذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ. فَضَجَّ النَّاسُ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ الْمُقَرَّبِينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ، فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ، فَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ، وَقُولُوا خَيْرًا؛ فَإِنَّهُ يُؤَمَّنُ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ الْمَيِّتِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي " الْمُسْنَدِ ". وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِابْنِهِ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: اُدْنُ مِنِّي، فَإِذَا رَأَيْت رُوحِي قَدْ بَلَغَتْ لَهَاتِي، فَضَعْ كَفَّك الْيُمْنَى عَلَى جَبْهَتِي، وَالْيُسْرَى تَحْتَ ذَقَنِي، وَأَغْمِضْنِي.
وَيُسْتَحَبُّ شَدُّ لَحْيَيْهِ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ، يَرْبُطُهَا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إذَا كَانَ مَفْتُوحَ الْعَيْنَيْنِ وَالْفَمِ، فَلَمْ يُغَمَّضْ حَتَّى يَبْرُدَ، بَقِيَ مَفْتُوحًا، فَيَقْبُحُ مَنْظَرُهُ، وَلَا يُؤْمَنُ دُخُولُ الْهَوَامِّ فِيهِ، وَالْمَاءِ فِي وَقْتِ غُسْلِهِ. وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ: وَيَقُولُ الَّذِي يُغَمِّضُهُ: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيُجْعَلُ عَلَى بَطْنِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحَدِيدِ، كَمِرْآةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ لِئَلَّا يَنْتَفِخَ بَطْنُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْحَدِيدِ فَطِينٌ مَبْلُولٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَلِيَ ذَلِكَ مِنْهُ أَرْفَقُ النَّاسِ بِهِ، بِأَرْفَقِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
قَالَ أَحْمَدُ: تُغَمِّضُ الْمَرْأَةُ عَيْنَيْهِ إذَا كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ لَهُ. وَقَالَ: يُكْرَهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ تَغْمِيضُهُ، وَأَنْ تَقْرَبَاهُ. وَكَرِهَ ذَلِكَ عَلْقَمَةُ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَكَرِهَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، أَنْ يُغَسِّلَ الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ الْمَيِّتَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ إِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُغَسِّلُهُ الْجُنُبُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُ لَيْسَ بِنَجَسٍ» .
وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute