{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: ٢٨٠] . وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغُرَمَاءِ الَّذِي كَثُرَ دَيْنُهُ: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ.» وَلِأَنَّ الْحَبْسَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِثْبَاتِ عُسْرَتِهِ أَوْ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَعُسْرَتُهُ ثَابِتَةٌ، وَالْقَضَاءُ مُتَعَذِّرٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْحَبْسِ.
وَإِنْ كَذَّبَهُ غَرِيمُهُ فَلَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يَكُونَ عُرِفَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ، فَإِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ لِكَوْنِ الدَّيْنِ ثَبَتَ عَنْ مُعَاوَضَةٍ، كَالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ، أَوْ عُرِفَ لَهُ أَصْلُ مَالٍ سِوَى هَذَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ غَرِيمِهِ مَعَ يَمِينِهِ. فَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ ذُو مَالٍ، حُبِسَ حَتَّى تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَقُضَاتِهِمْ، يَرَوْنَ الْحَبْسَ فِي الدَّيْنِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالنُّعْمَانُ وَسَوَّارٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: يُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، وَلَا يُحْبَسُ.
وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَلَنَا أَنَّ الظَّاهِرَ قَوْلُ الْغَرِيمِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى. فَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِتَلَفِ مَالِهِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَغَيْرُهُمْ. وَإِنْ طَلَبَ الْغَرِيمُ إحْلَافَهُ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يُجَبْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ، وَإِنْ شَهِدَتْ مَعَ ذَلِكَ بِالْإِعْسَارِ اُكْتُفِيَ بِشَهَادَتِهَا، وَثَبَتَتْ عُسْرَتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ بِعُسْرَتِهِ، وَإِنَّمَا شَهِدَتْ بِالتَّلَفِ لَا غَيْرُ، وَطَلَبَ الْغَرِيمُ يَمِينَهُ عَلَى عُسْرِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ آخَرُ، اسْتَحْلَفَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ.
وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ بِالتَّلَفِ، وَإِنَّمَا شَهِدَتْ بِالْإِعْسَارِ، لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ إلَّا مِنْ ذِي خِبْرَةٍ بَاطِنَةٍ، وَمَعْرِفَةٍ مُتَقَادِمَةٍ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ إلَّا أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِعْسَارِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ، فَلَمْ تُسْمَعْ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ.
وَلَنَا، مَا رَوَى قَبِيصَةُ بْنُ الْمُخَارِقِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «يَا قَبِيصَةُ، إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ. فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ. قُلْنَا: لَا تُرَدُّ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا وَارِثُ الْمَيِّتِ، لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ قُبِلَتْ، وَلِأَنَّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَتَضَمَّنُ النَّفْيَ، فَهِيَ تُثْبِتُ حَالَةً تَظْهَرُ، وَيُوقَفُ عَلَيْهَا بِالْمُشَاهَدَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَتْ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute