الرَّجُلِ الدَّيْنُ، لَيْسَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ فَوَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حَقِّهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْبَاقِيَ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمَا، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَاضٍ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إثْمٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَّمَ غُرَمَاءَ جَابِرٍ لِيَضَعُوا عَنْهُ، فَوَضَعُوا عَنْهُ، الشَّطْرَ.
وَفِي الَّذِي أُصِيبَ فِي حَدِيقَتِهِ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَلْزُومٌ، فَأَشَارَ إلَى غُرَمَائِهِ بِالنِّصْفِ، فَأَخَذُوهُ مِنْهُ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَاضٍ الْيَوْمَ، جَازَ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ وَالنَّظَرِ لَهُمَا.
وَرَوَى يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ إلَيْهِمَا، ثُمَّ نَادَى: «يَا كَعْبُ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَشَارَ إلَيْهِ، أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنَك. قَالَ: قَدْ فَعَلْت يَا رَسُولَ اللَّه. قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُمْ فَأَعْطِهِ» . فَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنْ تُوَفِّيَنِي مَا بَقِيَ بَطَلَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ إلَّا لِيُوَفِّيَهُ بَقِيَّتَهُ، فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ بَعْضَ حَقِّهِ بِبَعْضٍ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ، الْهِبَةُ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي يَدِهِ عَيْنٌ، فَيَقُولَ قَدْ وَهَبْتُك نِصْفَهَا، فَأَعْطِنِي بَقِيتهَا. فَيَصِحُّ، وَيُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ الْهِبَةِ. وَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ، لَمْ يَصِحَّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي الْهِبَةِ الْوَفَاءَ جَعَلَ الْهِبَةَ عِوَضًا عَنْ الْوَفَاءِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ بَعْضَ حَقِّهِ بِبَعْضٍ.
وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِ الدَّيْنِ، أَوْ وَهَبَ لَهُ بَعْضَ الْعَيْنِ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: صَالِحْنِي بِنِصْفِ دَيْنَك عَلَيَّ، أَوْ بِنِصْفِ دَارِك هَذِهِ. فَيَقُولَ: صَالِحَتك بِذَلِكَ. لَمْ يَصِحَّ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: يَجُوزُ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ بِلَفْظِهِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ صُلْحًا، وَلَا يَبْقَى لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ، فَلَا يُسَمَّى صُلْحًا، أَمَّا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ سُمِّيَ صُلْحًا؛ لِوُجُودِ اللَّفْظِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ الْمَعْنَى، كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الثَّوَابِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي لَفْظُ الصُّلْحِ الْمُعَاوَضَةَ إذَا كَانَ ثَمَّ عِوَضٌ، أَمَّا مَعَ عَدَمِهِ فَلَا.
وَإِنَّمَا مَعْنَى الصُّلْحِ الِاتِّفَاقُ، وَالرِّضَى، وَقَدْ يَحْصُلُ هَذَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، كَالتَّمْلِيكِ إذَا كَانَ بِعِوَضٍ سُمِّيَ بَيْعًا، وَإِنْ خَلَا عَنْ الْعِوَضِ سُمِّيَ هِبَةً. وَلَنَا أَنَّ لَفْظَ الصُّلْحِ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: صَالِحْنِي بِهِبَةِ كَذَا، أَوْ عَلَى نِصْفِ هَذِهِ الْعَيْنِ، وَنَحْوُ هَذَا. فَقَدْ أَضَافَ إلَيْهِ بِالْمُقَابَلَةِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: بِعْنِي بِأَلْفٍ.
وَإِنْ أَضَافَ إلَيْهِ " عَلَى " جَرَى مَجْرَى الشَّرْطِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: ٩٤] . وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ صَرَّحَ بِلَفْظِ الشَّرْطِ أَوْ بِلَفْظِ الْمُعَاوَضَةِ. وَقَوْلُهُمْ: أَنَّهُ يُسَمَّى صُلْحًا. مَمْنُوعٌ، وَإِنْ سُمِّيَ صُلْحًا فَمَجَازٌ؛ لِتَضَمُّنِهِ قَطْعَ النِّزَاعِ وَإِزَالَةَ الْخُصُومَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الصُّلْحَ لَا يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا لَكِنَّ الْمُعَاوَضَةَ حَصَلَتْ مِنْ اقْتِرَانِ حَرْفِ الْبَاءِ، أَوْ عَلَى، أَوْ نَحْوِهِمَا بِهِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ الصُّلْحِ تَحْتَاجُ إلَى حَرْفٍ تَعَدَّى بِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute