عَنْ بَيْعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّ قَوْمًا حَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَالظَّاهِرُ أَوْلَى. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَرُدَّهُ أَوْ لَا تَرْكَنَ إلَيْهِ. فَهَذِهِ يَجُوزُ خِطْبَتُهَا؛ لِمَا رَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، «أَنَّهَا أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَخَطَبَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ إخْبَارِهَا إيَّاهُ بِخِطْبَةِ مُعَاوِيَةَ وَأَبِي جَهْمٍ لَهَا، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ خِطْبَتِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إضْرَارٌ بِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَمْنَعَ الْمَرْأَةَ النِّكَاحَ إلَّا مَنَعَهَا بِخِطْبَتِهِ إيَّاهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ عَرَّضَ لَهَا فِي عِدَّتِهَا بِالْخِطْبَةِ، فَقَالَ: لَا تَفُوتِينِي بِنَفْسِك. وَأَشْبَاهَ هَذَا، لَمْ تَحْرُمْ خِطْبَتُهَا؛ لِأَنَّ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا «لَا تَفُوتِينَا بِنَفْسِك. وَلَمْ يُنْكِرْ خِطْبَةَ أَبِي جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةَ لَهَا» .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ امْرَأَةً عَلَى جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَعَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَدَخَلَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَهِيَ جَالِسَةٌ فِي بَيْتِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَخْطُبُ، وَهُوَ سَيِّدُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَمَرْوَانَ يَخْطُبُ، وَهُوَ سَيِّدُ شَبَابِ قُرَيْشٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَخْطُبُ، وَهُوَ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَكَشَفَتْ الْمَرْأَةُ السِّتْرَ، فَقَالَتْ: أَجَادَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَتْ: فَقَدْ أَنْكَحْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنْكَحُوهُ. فَهَذَا عُمَرُ قَدْ خَطَبَ عَلَى وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ، قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ مَا تَقُولُ الْمَرْأَةُ فِي الْأَوَّلِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوجَدَ مِنْ الْمَرْأَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَى وَالسُّكُونِ، تَعْرِيضًا لَا تَصْرِيحًا، كَقَوْلِهَا: مَا أَنْتَ إلَّا رِضًى، وَمَا عَنْك رَغْبَةٌ. فَهَذِهِ فِي حُكْمِ الْقِسْمِ الْأَوَّل، لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ خِطْبَتُهَا. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا رَكَنَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، فَلَا يَحِلُّ لَأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَ. وَالرُّكُونُ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِالتَّعْرِيضِ تَارَةً، وَبِالتَّصْرِيحِ أُخْرَى. وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ إبَاحَةُ خِطْبَتِهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ؛ لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ، حَيْثُ خَطَبَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَزَعَمُوا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كَلَامِهَا رُكُونُهَا إلَى أَحَدِهِمَا. وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي بِخِطْبَتِهِ لَهَا قَبْلَ سُؤَالِهَا هَلْ وُجِدَ مِنْهَا مَا دَلَّ عَلَى الرِّضَى أَوْ لَا؟ وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» . وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهَا مَا دَلَّ عَلَى الرِّضَى بِهِ، وَسُكُونِهَا إلَيْهِ، فَحَرُمَتْ خِطْبَتُهَا، كَمَا لَوْ صَرَّحَتْ بِذَلِكَ. وَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَرْكَنْ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ قَالَ لَهَا: «لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِك. وَفِي لَفْظٍ: لَا تَفُوتِينِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute