أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ، اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَقُلْت: وَاَللَّهِ لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ. فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ. قَالَ: ائْذَنِي لَهُ، فَإِنَّهُ عَمُّك، تَرِبَتْ يَمِينُك. قَالَ عُرْوَةُ: فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَأْخُذُ بِقَوْلِ: حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ رَجُلِ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ، فَأَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا جَارِيَةً، وَالْأُخْرَى غُلَامًا، هَلْ يَتَزَوَّجُ الْغُلَامُ الْجَارِيَةَ؟ فَقَالَ: لَا، اللِّقَاحُ وَاحِدٌ. قَالَ مَالِكٌ: اُخْتُلِفَ قَدِيمًا فِي الرَّضَاعَةِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَنَزَلَ بِرِجَالِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَزْوَاجِهِمْ؛ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، فَاسْتَفْتَوْا فِي ذَلِكَ، فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِمْ، فَفَارَقُوا زَوْجَاتِهِمْ.
فَأَمَّا الْمُرْتَضِعُ، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ تَنْتَشِرُ إلَيْهِ وَإِلَى أَوْلَادِهِ وَإِنْ نَزَلُوا، وَلَا تَنْتَشِرُ إلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ إخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، وَلَا إلَى أَعْلَى مِنْهُ، كَأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَعْمَامِهِ وَعَمَّاتِهِ وَأَخْوَالِهِ وَخَالَاتِهِ وَأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ نِكَاحُ أَبِي الطِّفْلِ الْمُرْتَضِعِ، وَلَا أَخِيهِ، وَلَا عَمِّهِ، وَلَا خَالِهِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا نِكَاحُ أُمِّ الطِّفْلِ الْمُرْتَضِعِ، وَلَا أُخْتِهِ، وَلَا عَمَّتِهِ، وَلَا خَالَتِهِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْلَادُ الْمُرْضِعَةِ، وَأَوْلَادُ زَوْجِهَا إخْوَةَ الطِّفْلِ الْمُرْتَضِعِ وَأَخَوَاتِهِ.
قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ أُخْتَ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ، لَيْسَ بَيْنهمَا رَضَاعٌ وَلَا نَسَبٌ، وَإِنَّمَا الرَّضَاعُ بَيْن الْجَارِيَةِ وَأُخْتِهِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ مِنْ شَرْطِ تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَوْلَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِوَى عَائِشَةَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ، إنْ زَادَ شَهْرًا جَازَ، وَرُوِيَ شَهْرَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُحَرِّمُ الرَّضَاعُ فِي ثَلَاثِينَ شَهْرًا؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: ١٥] . وَلَمْ يُرِدْ بِالْحَمْلِ حَمْلَ الْأَحْشَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ سَنَتَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ الْحَمْلَ فِي الْفِصَالِ.
وَقَالَ زُفَرُ: مُدَّةُ الرَّضَاعِ ثَلَاثُ سِنِينَ. وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَرَى رَضَاعَةَ الْكَبِيرِ تُحَرِّمُ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَطَاءٍ وَاللَّيْثِ، وَدَاوُد؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، فَكَانَ يَأْوِي مَعِي وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَيَرَانِي فَضْلًا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ مَا قَدْ عَلِمْت فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْضِعِيهِ. فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا. فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَأْخُذُ، تَأْمُرُ بَنَاتِ أَخَوَاتِهَا، وَبَنَاتِ إخْوَتِهَا يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ عَائِشَةُ أَنْ يَرَاهَا، وَيَدْخُلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ، وَأَبَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ، وَسَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute