للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالثَّانِي: هُوَ شِبْهُ عَمْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، أَشْبَهَ الضَّرْبَ بِالْعَصَا وَالْحَجَرِ. وَإِنْ كَتَّفَهُ وَأَلْقَاهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مُسَبَّعَةٍ فَأَكَلَهُ سَبُعٌ، أَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، فَمَاتَ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ. وَلَنَا، أَنَّهُ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا عَمْدًا، فَأَفْضَى إلَى هَلَاكِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ ضَرَبَهُ بِعَصًا فَمَاتَ. وَكَذَلِكَ إنْ أَلْقَاهُ مَشْدُودًا فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَعْهَدْ وُصُولَ زِيَادَةِ الْمَاءِ إلَيْهِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَعْلَمُ وُصُولِ زِيَادَةِ الْمَاءِ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَمَاتَ بِهَا، فَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ، إمَّا لِكَوْنِهَا تَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَعَدَمَهُ، أَوْ لَا تُعْهَدُ أَصْلًا، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ.

الضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَحْبِسَهُ فِي مَكَان، وَيَمْنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مُدَّةً لَا يَبْقَى فِيهَا حَتَّى يَمُوتَ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَالزَّمَانِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِذَا كَانَ عَطْشَانَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، مَاتَ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيلِ، وَإِنْ كَانَ رَيَّانَ وَالزَّمَنُ بَارِدٌ أَوْ مُعْتَدِلٌ، لَمْ يَمُتْ إلَّا فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ فَيُعْتَبَرُ هَذَا فِيهِ. وَإِنْ كَانَ فِي مُدَّةٍ يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا فَفِيهِ الْقَوَدُ. وَإِنْ كَانَ لَا يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا، فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَإِ. وَإِنْ شَكَكْنَا فِيهَا، لَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّنَا شَكَكْنَا فِي السَّبَبِ، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ مَعَ الشَّكِّ فِي سَبَبِهِ، لَا سِيَّمَا الْقِصَاصُ الَّذِي يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ

النَّوْعُ الْخَامِسُ: أَنْ يَسْقِيَهُ سُمًّا، أَوْ يُطْعِمَهُ شَيْئًا قَاتِلًا، فَيَمُوتَ بِهِ، فَهُوَ عَمْدٌ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ، إذَا كَانَ مِثْلُهُ يَقْتُلُ غَالِبًا. وَإِنْ خَلَطَهُ بِطَعَامٍ، وَقَدَّمَهُ إلَيْهِ، فَأَكَلَهُ أَوْ أَهْدَاهُ إلَيْهِ، أَوْ خَلَطَهُ بِطَعَامِ رَجُلٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَأَكَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَهُ مُخْتَارًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَدَّمَ إلَيْهِ سِكِّينًا، فَطَعَنَ بِهَا نَفْسَهُ، وَلِأَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَوَى «، أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقْتُلْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قَالَ: وَهَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَلَنَا، خَبَرُ الْيَهُودِيَّةِ، فَإِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ فِيهِ: فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ، فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُتِلَتْ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّ هَذَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَيُتَّخَذُ طَرِيقًا إلَى الْقَتْلِ كَثِيرًا، فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى شُرْبِهِ. فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّ أَحَدًا مَاتَ مِنْهُ. وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ إلَّا أَنْ يُقْتَلَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْتُلْهَا قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ فَلَمَّا مَاتَ، أَرْسَلَ إلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلَهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَقَتَلَهَا، فَنَقَلَ أَنَسٌ صَدْرَ الْقِصَّةِ دُونَ آخِرِهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>