للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَتَرَك شَدَّ فَصَادِهِ مَعَ إمْكَانِهِ، أَوْ جَرَحَهُ فَتَرَكَ مُدَاوَاةَ جُرْحِهِ، وَفَارَقَ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَهْلِكُ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا يَدْخُلُهُ النَّاسُ لِلْغُسْلِ وَالسِّبَاحَةِ وَالصَّيْدِ، وَأَمَّا النَّارُ فَيَسِيرُهَا يُهْلِكُ. وَإِنَّمَا تُعْلَمُ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّخَلُّصِ بِقَوْلِهِ: أَنَا قَادِرٌ عَلَى التَّخَلُّصِ. أَوْ نَحْوَ هَذَا؛ لِأَنَّ النَّارَ لَهَا حَرَارَةٌ شَدِيدَةٌ، فَرُبَّمَا أَزْعَجَتْهُ حَرَارَتُهَا عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ، أَوْ أَذْهَبَتْ عَقْلَهُ بِأَلَمِهَا وَرَوْعَتِهَا. وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي لُجَّةٍ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا، فَالْتَقَمَهُ حُوتٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، عَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ أَلْقَاهُ فِي مَهْلَكَةٍ فَهَلَكَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَرِقَ فِيهَا. وَالثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَهْلِكْ بِهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ آدَمِيُّ آخَرُ.

وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ، فَأَكَلَهُ سَبُعٌ، أَوْ الْتَقَمَهُ حُوتٌ أَوْ تِمْسَاحٌ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ بِفِعْلِهِ.

الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسَدٍ أَوْ نَمِرٍ، فِي مَكَان ضَيِّقٍ، كَزُبْيَةِ وَنَحْوِهَا، فَيَقْتُلَهُ، فَهَذَا عَمْدٌ، فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا فَعَلَ السَّبُعُ بِهِ فِعْلًا يَقْتُلُ مِثْلُهُ، وَإِنْ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا لَوْ فَعَلَهُ الْآدَمِيُّ لَمْ يَكُنْ عَمْدًا، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ بِهِ؛ لِأَنَّ السَّبُعَ صَارَ آلَةً لِلْآدَمِيِّ، فَكَانَ فِعْلُهُ. كَفِعْلِهِ. وَإِنْ أَلْقَاهُ مَكْتُوفًا بَيْنَ يَدَيْ الْأَسَدِ، أَوْ النَّمِرِ، فِي فَضَاءٍ، فَأَكَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَكَذَلِكَ إنْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَيَّةٍ فِي مَكَان ضَيِّقٍ، فَنَهَشَتْهُ فَقَتَلَتْهُ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الصُّورَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَسَدَ وَالْحَيَّةَ يَهْرُبَانِ مِنْ الْآدَمِيِّ، وَلِأَنَّ هَذَا سَبَبٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَكَانَ عَمْدًا مَحْضًا، كَسَائِرِ الصُّوَرِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُمَا يَهْرُبَانِ. غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الْأَسَدَ يَأْخُذُ الْآدَمِيَّ الْمُطْلَقَ، فَكَيْفَ يَهْرُبُ مِنْ مَكْتُوفٍ أُلْقِيَ إلَيْهِ لِيَأْكُلَهُ، وَالْحَيَّةُ إنَّمَا تَهْرُبُ فِي مَكَان وَاسِعٍ، أَمَّا إذَا ضَاقَ الْمَكَانُ، فَالْغَالِبُ أَنَّهَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا بِالنَّهْشِ، عَلَى مَا هُوَ الْعَادَةُ وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَنْ أُلْقِيَ مَكْتُوفًا فِي أَرْضٍ مُسَبَّعَةٍ، أَوْ ذَاتِ حَيَّاتٍ، فَقَتَلَتْهُ، أَنَّ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ رِوَايَتَيْنِ. وَهَذَا تَنَاقُضٌ شَدِيدٌ؛ فَإِنَّهُ نَفَى الضَّمَانَ بِالْكُلِّيَّةِ فِي صُورَةٍ كَانَ الْقَتْلُ فِيهَا أُغْلَبَ، وَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي صُورَةٍ كَانَ فِيهَا أَنْدَرَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ هَاهُنَا، وَيَجِبُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا مُتَعَمِّدًا تَلِفَ بِهِ. لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا.

وَإِنْ أَنْهَشَهُ حَيَّةً أَوْ سَبُعًا فَقَتَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، كَثُعْبَانِ الْحِجَازِ، أَوْ سَبُعٍ صَغِيرٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، فِيهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ غَلَبَةُ حُصُولِ الْقَتْلِ بِهِ، وَهَذَا جُرْحٌ، وَلِأَنَّ الْحَيَّةَ مِنْ جِنْسِ مَا يَقْتُلُ غَالِبًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>