يَشُقُّ جِدًّا، فَيَكُونُ تَغْلِيظًا لِلدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، وَتَخْفِيفًا لِدِيَةِ الْعَمْدِ، وَهَذَا خِلَافُ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ، وَوَرَدَ بِهِ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ نَقْصُ قِيمَةِ بَنَاتِ الْمَخَاضِ عَنْ قِيمَةِ الْحِقَاقِ وَالْجَذَعَاتِ، فَلَوْ كَانَتْ تُؤَدَّى عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيهَا لَنُقِلَ، وَلَمْ يَجُزْ الْإِخْلَالُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مُطْلَقًا إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مَا يُخَالِفُ الْعَادَةَ، وَجَبَ بَيَانُهُ وَإِيضَاحُهُ؛ لِئَلَّا يَكُونَ تَلْبِيسًا فِي الشَّرِيعَةِ وَإِيهَامَهُمْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ خِلَافُ مَا هُوَ حُكْمُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ لِلْبَيَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: ٤٤] .
فَكَيْفَ يُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْإِلْبَاسِ وَالْإِلْغَازِ، هَذَا مِمَّا لَا يَحِلُّ. ثُمَّ لَوْ حُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ الْأَسْنَانُ عَبَثًا غَيْرَ مُفِيدٍ، فَإِنَّ فَائِدَة ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ كَوْنُ اخْتِلَافِ أَسْنَانِهَا مَظِنَّةَ اخْتِلَافِ الْقِيَمِ، فَأُقِيمَ مُقَامَهُ؛ وَلِأَنَّ الْإِبِلَ أَصْلٌ فِي الدِّيَةِ، فَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا بِغَيْرِهَا، كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَلِأَنَّهَا أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ، فَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا، كَالْإِبِلِ فِي السِّلْمِ وَشَاةِ الْجُبْرَانِ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ حُجَّةٌ لَنَا؛ فَإِنَّ الْإِبِلَ كَانَتْ تُؤْخَذُ قَبْلَ أَنْ تَغْلُوَ وَيُقَوِّمَهَا عُمَرُ، وَقِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ قِيمَتَهَا كَانَتْ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ: دِيَةُ الْكِتَابِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا أَبْدَالُ مَحَلٍّ وَاحِدٍ. فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ، وَنَقُولَ: الْبَدَلُ إنَّمَا هُوَ الْإِبِلُ، وَغَيْرُهَا مُعْتَبَرٌ بِهَا.
وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَهُوَ مُنْتَقِضٌ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَسَاوِيهِمَا، وَيَنْتَقِضُ أَيْضًا بِشَاةِ الْجُبْرَانِ مَعَ الدَّرَاهِمِ. وَأَمَّا بَدَلُ الْقَرْضِ وَالْمُتْلَفِ، فَإِنَّمَا هُوَ الْمِثْلُ خَاصَّةً، وَالْقِيمَةُ بَدَلٌ عَنْهُ؛ وَلِذَلِكَ لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ لِقَوْلِكُمْ: إنَّ الْإِبِلَ هِيَ الْأَصْلُ، وَغَيْرُهَا بَدَلٌ عَنْهَا فَيَجِبُ أَنْ يُسَاوِيَهَا كَالْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ. قُلْنَا: إذَا ثَبَتَ لَنَا هَذَا، يَنْبَغِي أَنْ يُقَوَّمَ غَيْرُهَا بِهَا، وَلَا تُقَوَّمُ هِيَ بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يَتْبَعُ الْأَصْلَ، وَلَا يَتْبَعُ الْأَصْلُ الْبَدَلَ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا صَيَّرَ إلَى التَّقْدِيرِ بِهَذَا؛ لِأَنَّ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوَّمَهَا فِي وَقْتِهِ بِذَلِكَ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، كَيْلًا يُؤَدِّيَ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ فِي قِيمَةِ الْإِبِلِ الْوَاجِبَةِ، كَمَا قُدِّرَ لَبَنُ الْمُصَرَّاةِ بِصَاعٍ مِنْ التَّمْرِ، نَفْيًا لِلتَّنَازُعِ فِي قِيمَتِهِ، فَلَا يُوجِبُ هَذَا أَنْ يُرَدَّ الْأَصْلَ إلَى التَّقْوِيمِ، فَيُفْضِيَ إلَى عَكْسِ حِكْمَةِ الشَّرْعِ، وَوُقُوعِ التَّنَازُعِ فِي قِيمَةِ الْإِبِلِ مَعَ وُجُوبِهَا بِعَيْنِهَا، عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي بَدَلَيْ الْقَرْضِ مُسَاوَاةُ الْمَحَلِّ الْمُقْرَضِ، فَاعْتُبِرَ مُسَاوَاةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ بَدَلَيْهِ لَهُ.
وَالدِّيَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِقِيمَةِ الْمُتْلَفِ؛ وَلِهَذَا لَا تُعْتَبَرُ صِفَاتُهُ. وَهَكَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي تَقْوِيمِ الْبَقَرِ وَالشَّاةِ وَالْحُلَلِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَبْلَغُ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَتَكُونُ قِيمَةُ كُلِّ بَقَرَةٍ أَوْ حُلَّةٍ سِتِّينَ دِرْهَمًا، وَقِيمَةُ كُلِّ شَاةٍ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، لِتَتَسَاوَى الْأَبْدَالُ كُلُّهَا، وَكُلُّ حُلَّةٍ بُرْدَتَانِ، فَيَكُونَ أَرْبَعمِائَةِ بُرْدٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute