للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَحَدُهَا، مَا لَهُ مُسَمًّى وَاحِدٌ، كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، فَهَذَا تَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى مُسَمَّاهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ. الثَّانِي، مَا لَهُ مَوْضُوعٌ شَرْعِيٌّ، وَمَوْضُوعٌ لُغَوِيٌّ، كَالْوُضُوءِ وَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا تَنْصَرِفُ الْيَمِينُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى مَوْضُوعِهِ الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ أَيْضًا خِلَافًا، غَيْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.

الثَّالِثُ، مَا لَهُ مَوْضُوعٌ حَقِيقِيٌّ وَمَجَازٌ لَمْ يَشْتَهِرْ أَكْثَرَ مِنْ الْحَقِيقَةِ، كَالْأَسَدِ وَالْبَحْرِ، فَيَمِينُ الْحَالِفِ تَنْصَرِفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الشَّارِعِ إذَا وَرَدَ فِي مِثْلِ هَذَا، حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ، كَذَلِكَ الْيَمِينُ.

الرَّابِعُ، الْأَسْمَاءُ الْعُرْفِيَّةُ، وَهِيَ مَا يَشْتَهِرُ مَجَازُهُ حَتَّى تَصِيرَ الْحَقِيقَةُ مَغْمُورَةً فِيهِ، فَهَذَا عَلَى ضُرُوبٍ؛ أَحَدُهَا، مَا يَغْلِبُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ، كَالرَّاوِيَةِ، هِيَ فِي الْعُرْفِ اسْمُ الْمَزَادَةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِمَا يُسْتَقَى عَلَيْهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ، وَالظَّعِينَةِ فِي الْعُرْفِ الْمَرْأَةُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ النَّاقَةُ الَّتِي يُظْعَنُ عَلَيْهَا، وَالْعَذِرَةِ وَالْغَائِطِ فِي الْعُرْفِ الْفَضْلَةُ الْمُسْتَقْذَرَةُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْعَذِرَةُ فِنَاءُ الدَّارِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيٌّ، - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِقَوْمٍ: مَا لَكُمْ لَا تُنَظِّفُونَ عَذِرَاتِكُمْ؟ يُرِيدُ أَفْنِيَتَكُمْ. وَالْغَائِطُ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ.

فَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ تَنْصَرِفُ يَمِينُ الْحَالِفِ إلَى الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يُرِيدُهُ بِيَمِينِهِ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ، فَأَشْبَهَ الْحَقِيقَةَ فِي غَيْرِهِ.

الضَّرْبُ الثَّانِي، أَنْ يَخُصَّ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ بَعْضَ الْحَقِيقَةِ بِالِاسْمِ، وَهَذَا يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا؛ فَمِنْهُ مَا يَشْتَهِرُ التَّخْصِيصُ فِيهِ، كَلَفْظِ الدَّابَّةِ، هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يَدِبُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: ٦] . وَقَالَ: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: ٥٥] .

وَفِي الْعُرْفِ اسْمٌ لِلْبِغَالِ وَالْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ، وَلِذَلِكَ لَوْ وَصَّى إنْسَانٌ لِرَجُلٍ بِدَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّهِ، كَانَ لَهُ أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ يَمِينَ الْحَالِفِ تَنْصَرِفُ إلَى الْعُرْفِ دُونَ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، كَاَلَّذِي قَبْلَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَتَنَاوَلَ يَمِينُهُ الْحَقِيقَةَ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ فِيمَا سَنَذْكُرُهُ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي الْحَالِفِ عَلَى تَرْكِ أَكْلِ اللَّحْمِ: إنَّ يَمِينَهُ تَتَنَاوَلُ السَّمَكَ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ إذَا حَلَفَ لَا يَشُمُّ الرَّيْحَانَ، فَإِنَّهُ فِي الْعُرْفِ اسْمٌ مُخْتَصٌّ بِالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِكُلِّ نَبْتٍ أَوْ زَهْرٍ طَيِّبِ الرِّيحِ، مِثْلِ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالنِّرْجِسِ.

وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْنَثُ إلَّا بِشَمِّ الرِّيحَانِ الْفَارِسِيِّ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ لَا يُرِيدُ بِيَمِينِهِ فِي الظَّاهِرِ سِوَاهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْنَثُ بِشَمِّ مَا يُسَمَّى فِي الْحَقِيقَةِ رَيْحَانًا؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُ حَقِيقَةً. وَلَا يَحْنَثُ بِشَمِّ الْفَاكِهَةِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى رَيْحَانًا حَقِيقَةً وَلَا عُرْفًا. وَمِنْ هَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ وَرْدًا، وَلَا بَنَفْسَجًا، فَشَمَّ دُهْنَ الْبَنَفْسَجِ، وَمَاءَ الْوَرْدِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْنَثُ.

وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشُمّ وَرْدًا وَلَا بَنَفْسَجًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>