وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الشَّمَّ إنَّمَا هُوَ لِلرَّائِحَةِ دُونَ الذَّاتِ، وَرَائِحَةُ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ مَوْجُودَةٌ فِيهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ بِشَمِّ دُهْنِ الْبَنَفْسَجِ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى بَنَفْسَجًا، وَلَا يَحْنَثُ بِشَمِّ مَاءِ الْوَرْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى وَرْدًا.
وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الصِّحَّةِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ شَمَّ الْوَرْدَ وَالْبَنَفْسَجَ الْيَابِسَ، حَنِثَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَحْنَثُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا، فَأَكَلَ تَمْرًا. وَلَنَا، أَنَّ حَقِيقَتَهُ بَاقِيَةٌ، فَحَنِثَ بِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، فَأَكَلَ قَدِيدًا، وَفَارَقَ مَا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّ التَّمْرَ لَيْسَ رُطَبًا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شِوَاءً، حَنِثَ بِأَكْلِ اللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ، دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْبَيْضِ الْمَشْوِيِّ وَمَا عَدَاهُ. وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَحْنَثُ بِأَكْلِ كُلِّ مَا يُشْوَى؛ لِأَنَّهُ شِوَاءٌ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى شِوَاءً، فَلَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهِ، كَالْمَطْبُوخِ، وَقَوْلُهُمْ: هُوَ شِوَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ. قُلْنَا: لَكِنَّهُ لَا يُسَمَّى شِوَاءً فِي الْعُرْفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ الْمُسَمَّى شِوَاءً فِي عُرْفِهِمْ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا، فَدَخَلَ مَسْجِدًا، أَوْ حَمَّامًا، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ.
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى بَيْتًا فِي الْعُرْفِ، فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْوَاعِ. وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّهُمَا بَيْتَانِ حَقِيقَةً، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْمَسَاجِدَ بُيُوتًا، فَقَالَ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: ٣٦] . وَقَالَ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: ٩٦] . وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ: «الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ» . وَرُوِيَ فِي خَبَرٍ: " بِئْسَ الْبَيْتُ الْحَمَّامُ ". وَإِذَا كَانَ بَيْتًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَيُسَمِّيهِ الشَّارِعُ بَيْتًا، حَنِثَ بِدُخُولِهِ، كَبَيْتِ الْإِنْسَانِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مِنْ الْأَنْوَاعِ، فَإِنَّ هَذَا يُسَمَّى بَيْتًا فِي الْعُرْفِ، بِخِلَافِ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا مِنْ شَعْرٍ، أَوْ غَيْرِهِ، حَنِثَ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَالِفُ حَضَرِيًّا أَوْ بَدَوِيًّا، فَإِنَّ اسْمَ الْبَيْتِ يَقَعُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَعُرْفًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} [النحل: ٨٠] .
فَأَمَّا مَا لَا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ بَيْتًا، كَالْخَيْمَةِ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَحْنَثَ بِدُخُولِهِ مَنْ لَا يُسَمِّيهِ بَيْتًا؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ لَا تَنْصَرِفُ إلَيْهِ. وَإِنْ دَخَلَ دِهْلِيزَ دَارٍ أَوْ صِفَتَهَا، لَمْ يَحْنَثْ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ بَيْتٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute