صَلَّى إلَى الْمَقْبَرَةِ وَالْحُشِّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُصَلِّي فِيهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا حَائِلٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تُصَلُّوا إلَى الْقُبُورِ، وَلَا تَجْلِسُوا إلَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: ذَكَرَ أَحْمَدُ حَدِيثَ أَبِي مَرْثَدٍ، ثُمَّ قَالَ: إسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَقَالَ أَنَسٌ: رَآنِي عُمَرُ، وَأَنَا أُصَلِّي إلَى قَبْرٍ، فَجَعَلَ يُشِيرُ إلَيَّ: الْقَبْرَ، الْقَبْرَ. قَالَ الْقَاضِي: وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى نَظَائِرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إلَّا الْمَقْبَرَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جُعِلَتْ الْأَرْضُ مَسْجِدًا» يَتَنَاوَلُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ مَنْ هِيَ فِي قِبْلَتِهِ، وَقِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ إلَى الْمَقْبَرَةِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ النَّهْيَ إنْ كَانَ تَعَبُّدًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى امْتَنَعَ تَعْدِيَتُهُ وَدُخُولُ الْقِيَاسِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لِمَعْنًى مُخْتَصٍّ بِهَا، وَهُوَ اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسْجِدًا، وَالتَّشَبُّهُ بِمَنْ يُعَظِّمُهَا وَيُصَلِّي إلَيْهَا، فَلَا يَتَعَدَّاهَا الْحُكْمُ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمَعْنَى فِي غَيْرِهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» .
وَقَالَ: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. فَعَلَى هَذَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَى الْقُبُورِ لِلنَّهْيِ عَنْهَا، وَيَصِحُّ إلَى غَيْرِهَا لِبَقَائِهَا فِي عُمُومِ الْإِبَاحَةِ وَامْتِنَاعِ قِيَاسِهَا عَلَى مَا وَرَدَ النَّهْيُ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (٩٦٢) فَصْلٌ: وَإِنْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْحُشِّ أَوْ الْحَمَّامِ أَوْ عَطَنِ الْإِبِلِ أَوْ غَيْرِهَا، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُصَلِّي فِيهَا؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ، فَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُهُ، وَلِذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا، فَدَخَلَ سَطْحَهَا، حَنِثَ، وَلَوْ خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ.
وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، قَصْرُ النَّهْيِ عَلَى مَا تَنَاوَلَهُ، وَأَنَّهُ لَا يُعَدَّى إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إنْ كَانَ تَعَبُّدِيًّا فَالْقِيَاسُ فِيهِ مُمْتَنِعٌ، وَإِنْ عُلِّلَ فَإِنَّمَا تَعَلَّلَ بِكَوْنِهِ لِلنَّجَاسَةِ، وَلَا يُتَخَيَّلُ هَذَا فِي سَطْحِهَا. فَأَمَّا إنْ بَنَى عَلَى طَرِيقٍ سَابَاطًا أَوْ أُخْرِجَ عَلَيْهِ خُرُوجًا، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي: حُكْمُهُ حُكْمُ الطَّرِيقِ، لِمَا ذَكَرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَعَلَى قَوْلِنَا، إنْ كَانَ السَّابَاطُ مُبَاحًا لَهُ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ بِإِذْنِ أَهْلِهِ، أَوْ مُسْتَحِقًّا لَهُ، أَوْ حَدَثَ الطَّرِيقُ بَعْدَهُ، فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، فَيَكُونُ الْمُصَلِّي فِيهِ كَالْمُصَلِّي فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ. عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَ السَّابَاطُ عَلَى نَهْرٍ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، فَهُوَ كَالسَّابَاطِ عَلَى الطَّرِيقِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute