لذلك المقطع وللمقاطع اللاحقة وقد رأينا أن ننقل بعضها هنا لتكون مقدمة مباشرة للمقطع السادس الذي يأمر بالنفير العام، يقول صاحب الظلال:
«لقد كان القرآن فيها (أي في السور الثلاث البقرة وآل عمران والنساء) يخوض المعركة بالجماعة المسلمة، في كل جبهة .. كان يخوضها في الضمائر والمشاعر، حيث ينشئ فيها عقيدة جديدة، ومعرفة بربها جديدة، وتصورا للوجود جديدا، ويقيم فيها موازين جديدة، وينشئ فيها قيما جديدة؛ ويستنقذ فطرتها من ركام الجاهلية؛ ويمحو ملامح الجاهلية في النفس والمجتمع؛ وينشئ ويثبت ملامح الإسلام الوضيئة الجميلة .. ثم يقودها في المعركة مع أعدائها المتربصين بها في الداخل والخارج .. اليهود والمنافقين والمشركين .. وهي على أتم استعداد للقائهم، والتفوق عليهم، بمتانة بنائها الداخلي الجديد: الاعتقادي والأخلاقي والاجتماعي والتنظيمي سواء ..
ولقد كان التفوق الحقيقي للمجتمع المسلم على المجتمعات الجاهلية من حوله- بما فيها مجتمع اليهود القائم في قلب المدينة- هو تفوقه في البناء الروحي والخلقي والاجتماعي والتنظيمي- بفضل المنهج القرآني الرباني- قبل أن يكون تفوقا عسكريا أو اقتصاديا أو ماديا على العموم!
بل هو لم يكن قط تفوقا عسكريا واقتصاديا- ماديا- فقد كان أعداء المعسكر الإسلامي دائما أكثر عددا، وأقوى عدة وأغنى مالا، وأوفر مقدرات مادية على العموم! سواء في داخل الجزيرة العربية، أو في خارجها في زمن الفتوحات الكبرى بعد ذلك .. ولكن التفوق الحقيقي كان في ذلك البناء الروحي والخلقي والاجتماعي- ومن ثم السياسي والقيادي- الذي أسسه الإسلام بمنهجه الرباني المتفرد.
وبهذا التفوق الساحق على الجاهلية في بنائها الروحي والخلقي والاجتماعي- ومن ثم السياسي والقيادي- اجتاح الإسلام الجاهلية .. اجتاحها أولا في الجزيرة العربية.
واجتاحها ثانيا في الإمبراطوريتين العظيمتين الممتدتين حوله: امبراطوريتي كسرى وقيصر .. ثم بعد ذلك في جوانب الأرض الأخرى. سواء كان معه جيش وسيف، أم كان معه مصحف وأذان!
ولولا هذا التفوق الساحق ما وقعت تلك الخارقة التي لم يعرف لها التاريخ نظيرا.
حتى في الاكتساحات العسكرية التاريخية الشهيرة. كزحف التتار في التاريخ القديم.
وزحف الجيوش الهتلرية في التاريخ الحديث .. ذلك أنه لم يكن اكتساحا عسكريا