وسنرى حكمة ذلك في باب الفوائد فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي فما الذين فضّلوا بالرزق- وهم الملّاك- برادي رزقهم أي: بمعطين رزقهم لمملوكيهم فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أي فيستووا مع عبيدهم في الرزق، أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ هذه حجتهم وفلسفتهم ذكرها الله عزّ وجل في عدم رد ما فضلوا به على مماليكهم أنهم لو فعلوا لجحدوا نعمة الله عليهم الذي فضّلهم على غيرهم، وبهذا أقام الله الحجة على المشركين فهو مثل ضربه الله لهم معناه: أنتم لا ترضون أن تسووا بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء، وتعتقدون أنني راض عن ذلك. والآية تحتاج إلى كلام كثير سنراه في الفوائد.
وهكذا بدأت هذه المجموعة بالتذكير بنعم الله ثم بالتذكير بقهره، ثم بإقامة الحجة على المشركين لتحرير التوحيد، والآن تعود للتذكير بالنعمة، وتقرير التوحيد بآن واحد
قال ابن كثير: «يذكر الله تعالى نعمه على عبيده بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا من جنسهم وشكلهم. ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورا وإناثا، وجعل الإناث أزواجا للذكور، ثم ذكر الله تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة: وهم: أولاد البنين) وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي من المطاعم والمشارب، وهذا من كمال نعمته عليكم، وإذ كان الأمر كذلك فكيف تشركون. ومن ثم قال: أَفَبِالْباطِلِ الباطل هو الشئ الذي لا حقيقة له يُؤْمِنُونَ أي يصدّقون وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ التي يحسونها ويتنعّمون بها يَكْفُرُونَ يضيفونها إلى غيره ولا ينسبونها إليه، وهذا دأب المشركين خلال العصور، ومن ذلك ملاحدة عصرنا الذين يخلعون على الطبيعة خصائص الإلهية، ويجعلونها هي الخالقة الرازقة.
وبعد أن ذكّر الله بنعمه، وأقام الحجة على المشركين أخبر عن المشركين، وماذا يفعلون؟ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً فالله هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده، وغيره لا يملك أن يرزق أدنى شئ وَلا يَسْتَطِيعُونَ أي لا يملكون الرزق، ولا يمكنهم أن يملكوه، ولا يتأتى ذلك منهم، ومن كان كذلك فكيف يعبد؟ ولا شك أن الذين يعبدون من دون الله ما يعبدون