لقد جرت سنّة الله التي وضعها لامتداد الحياة بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل والأنواع بلا استثناء، حتى المخلوقات التي لا يوجد فيها ذكر وأنثى متميزان تتجمع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث .. جرت هذه السنة أحقابا طويلة حتى استقر في تصور البشر أن هذه هي الطريقة الوحيدة، ونسوا الحادث الأول.
حادث وجود الإنسان لأنه خارج عن القياس. فأراد الله أن يضرب لهم مثل عيسى بن مريم- عليه السلام- ليذكرهم بحرية القدرة وطلاقة الإرادة، وأنها لا تحبس داخل النواميس التي تختارها. ولم يتكرر حادث عيسى لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها الله، وأن ينفذ الناموس الذي اختاره. وهذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلما بارزا على حرية المشيئة، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ.
ونظرا لغرابة الحادث وضخامته فقد عز على فرق من الناس أن تتصوره على طبيعته، وأن تدرك الحكمة في إبرازه، فجعلت تضفي على عيسى بن مريم- عليه السلام- صفات الألوهية، وتصوغ حول مولده الخرافات والأساطير، وتعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب- وهي إثبات القدرة الإلهية التي لا تتقيد- تعكسها فتشوه عقيدة التوحيد.
والقرآن في هذه السورة يقص كيف وقعت هذه العجيبة، ويبرز دلالتها الحقيقية، وينفي تلك الخرافات والأساطير).
[التفسير]
وَاذْكُرْ يا محمد فِي الْكِتابِ القرآن مَرْيَمَ أي قصة مريم إِذِ انْتَبَذَتْ أي اعتزلت. أي اذكر وقت اعتزالها مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا أي تخلت للعبادة في مكان ما شرقي بيت المقدس، أو شرقي دارها معتزلة عن الناس
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً أي جعلت بينها وبين أهلها حجابا. أي استترت منهم وتوارت فَأَرْسَلْنا المرسل هو الله إِلَيْها رُوحَنا أي جبريل عليه السلام وإضافة الروح إلى الله للتشريف. وإنما سمي روحا لأن الدين يحيا به وبوحيه فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا فتمثل لها جبريل على صورة إنسان تام كامل مستوى الخلق. قال النسفي: وإنما مثّل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت ولم تقدر على الاستماع
قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أي إن كنت