كتاب الله. فالنص هنا يفيد إما أن يحيى يكون مؤمنا بعيسى، أو أنه مؤمن بكتاب ربه وكلماته. وَسَيِّداً السيادة: هي التفوق في الشرف، وسببها في الإسلام الحلم والعبادة، والعلم والتقوى، والخلق والدين. وقد اجتمع ليحيى هذا كله.
وَحَصُوراً الحصور: هو الذي لا يقرب النساء، إما بحصره نفسه، أي بمنعه لها من الشهوات، أو بخلق الله إياه بلا شهوة. قال القاضي عياض في كتابه الشفاء: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان حصورا ليس كما قاله بعضهم: أنه كان هيوبا، أو لا ذكر له، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين، ونقاد العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب، ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب، أي لا يأتيها، كأنه حصور عنها، وقيل مانعا نفسه من الشهوات. وقيل ليست له شهوة في النساء. وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها، إما بمجاهدة كعيسى، وإما بكفاية من الله- عزّ وجل- كيحيى.
ثم هي في حق من قدر عليها، وقام بالواجب فيها، ولم تشغله عن ربه، درجة عليا وهي درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن، وقيامه عليهن، وإكسابه لهن، وهدايته إياهن ... وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ هذه بشارة بالنبوة، بعد البشارة بالولادة، وهي أعلى من الأولى، والمعنى: ونبيا ناشئا من الصالحين، لأنه من أصلاب الأنبياء، أو كائنا من جملة الصالحين.
فلما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر، وهو تعجب من حيث العادة، واستعظام للقدرة. قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي: أدركتني السن العالية وأضعفتني وَامْرَأَتِي عاقِرٌ لم تلد. قالَ أي الملك كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الأفعال العجيبة. أي هكذا أمر الله، عظيم لا يعجزه شئ، ولا يتعاظمه أمر.
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة أعرف بها الحبل؛ لأتلقى النعمة بالشكر إذا جاءت. قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً أي: علامة ذلك ألا تقدر على تكليم الناس إلا إشارة بيد، أو رأس، أو عين، أو حاجب، مع أنك سوي صحيح. وإنما خص تكليم الناس ليعلم أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة. مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله، ولهذا قال وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ. العشي في اللغة: من حين الزوال إلى الغروب، والمراد بها هنا أوسع من ذلك والله أعلم، والإبكار: من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. أمره بالذكر والتسبيح في أيام عجزه عن تكليم الناس، ليخلص المدة