إنّ سورة المائدة في محورها الرئيسي تبيّن الطريق الذى إن سلكه إنسان فإنه لا يستحق هداية الله، ويأتي في معرض ذلك ذكر الطريق الذي إذا سلكه إنسان يستحق هداية الله، بينما كان السياق الرئيسي في سورة النساء تبيان الطريق إلى التقوى ويأتي في معرض ذلك ما يتنافى مع التقوى.
لاحظ أنّ الأقسام الثلاثة في سورة المائدة تتكامل من حيثيّات متعدّدة، ومن جملة مظاهر هذا التكامل: أن القسم الأوّل وهو يذكر في سياقه الرئيسي ما به يستحق الإنسان الإضلال يوصل إلى القسم الثاني الذي يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ففيه تعزية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن والسورة تفصّل في الطريق الذي يستحق به صاحبه الضّلال، لا تترك قضية البلاغ بناء على أن إنسانا ما سار في مثل هذه الطرق وبالتالي فلا علينا ألا نبلغه، ولذلك فإن القسم الثالث يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وسنرى مظاهر أخرى من التكامل في السّورة مما يشعرنا بوحدة سياقها زيادة على تفصيلها لمحورها.
وبعد أن عرفنا أن القسم الثالث في السورة يتألف من مقطعين هما المقطع السادس والسابع فلنبدأ الكلام عن المقطع السادس الذي ذكرنا آياته قبل هذه الكلمة:
[كلمة في المقطع]
بعد أن أكّد القسم الثاني في مقطعيه الرابع والخامس ضرورة الاحتكام إلى ما أنزل الله، وأوجب الاحتكام إلى القرآن، وبين آثار بركة ذلك على الحياة، يأتي هذا المقطع آمرا بالبلاغ، وخاصا بهذا البلاغ أهل الكتاب، ومحدّدا ما يقال لهم، ثم ذاكرا قاعدة النّجاة عند الله- عزّ وجل-، وفي هذا السياق يذكر المقطع موقف بني إسرائيل من الرّسل، عليهم الصلاة والسلام، وهو موقف لا يستغرب معه موقفهم من محمد صلّى الله عليه وسلّم ودعوته، ثم ذكر المقطع بعض تصوراتهم الخاطئة في شأن الله، وانتقل الكلام إلى كفر النصارى، ومناقشتهم في هذا الكفر، ودعوتهم إلى التوحيد، وترك الغلوّ، وترك متابعة أهواء الضالين، ولذلك كله صلة بالبلاغ الذي أمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بداية المقطع. ثم يقرّر الله- عزّ وجل- مسألة استحقاق اليهود لعنة الله، وأسباب ذلك، كما يقرّر شدة عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين، مستثنيا من العداوة الذين استجابوا للبلاغ من النصارى. فالمقطع كله في البلاغ وماهيّته، وخاصة لأهل الكتاب. وفيه