دلّت هذه الآيات الأربع على أنّ كفّار هذه الأمّة قابلوا هذا القرآن بالاستهزاء، وعلى أنّهم كانوا مسرفين في مواقفهم وأعمالهم، وأنهم يستحقون عذاب الاستئصال، إذ يكفرون بهذا القرآن الذي جعل الله فيه من الخصائص ما لا يحيط به البشر، فهو العلي في كل شئ، وهو الحكيم في كل شئ، وهو المبين الفصيح، ومع ذلك أعرضوا. ولما كان سبب هذا الموقف من القرآن ومن الوحي ومن الرسول صلّى الله عليه وسلم عقائدهم الفاسدة التي هي أصل الفساد، والتي جاء القرآن مصحّحا لها، فإنّ السورة تبدأ مناقشتهم في هذه العقائد، وتقيم الحجة عليهم، وهو درس كبير في التربية والدعوة أن تكتشف العلّة الحقيقية للمواقف الخاطئة وتهدّمها وتحطّمها لتعالج المواقف المتفرعة عنها.
ونلاحظ فيما يأتي أن المقطع يناقش مجموعة قضايا، ومن خلال هذه المناقشة نرى كل خصائص القرآن المذكورة في بداية السورة: بيان القرآن، وفصاحته، وعلوّه، وحكمته. وسنعرض ما بقي من المقطع على مجموعات.
[تفسير المجموعة الأولى من المقطع الأول]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي: ولئن سألت- يا محمد- هؤلاء المسرفين المستهزئين المشركين الكافرين بهذا القرآن الشاكين فيه مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أي: ليعترفنّ بأنّ الخالق لذلك هو الله وحده لا شريك له، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد. وموقف هؤلاء المشركين أقلّ سوءا من ملاحدة عصرنا الذين ينكرون وجود الخالق أصلا، مع أن ذلك يتنافى مع كل الحقائق العقلية والعلمية، كما دلّلنا على ذلك بتوسع في كتابنا (الله جل جلاله)، وبعد أن ذكر الله عزّ وجل جوابهم اعتمد هذا الجواب ثم ذكرهم بفعله بهم الذي يقتضي منهم شكرا.
وهم لا يفعلون إلا كفرا قال تعالى:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي: فراشا صالحا للحياة عليه، والاطمئنان فيه وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي: طرقا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: لكي تهتدوا في أسفاركم. قال ابن كثير: أي في سيركم من بلد إلى بلد، وقطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ قال ابن كثير:
أي: بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم وشربكم لأنفسكم ولأنعامكم. قال النسفي: