وبعد أن ذكر الله عزّ وجل النّموذج الكامل للموقف الحقّ من ضلال الآباء يعود السياق ليحدّثنا عن موقف المشركين من دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن أسباب اغترارهم.
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ يعني أهل مكة، وهم المخاطبون الأوائل بهذا القرآن، وهم من عقب إبراهيم عليه السلام. أي: متّعهم الله بالمدّ في العمر والنّعمة، فاغتروا بالمهلة وشغلوا بالتنعّم واتّباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ أي: القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ أي: واضح الرسالة بما معه من الآيات وهو محمد صلّى الله عليه وسلم الذي هو من نسل إبراهيم عليه السلام، فلا عجب أن يحمل راية التوحيد ويدعو إليها بأمر الله ووحيه، ولكنّهم بدلا من أن يرجعوا إلى الحقّ كان موقفهم
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ أي: القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ قال ابن كثير: أي كابروه وعاندوه ودفعوه بالصدور والراح كفرا وحسدا وبغيا.
[كلمة في السياق]
وهكذا استقر السياق على موقفهم من القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ.
فلنلق نظرة على ما مر معنا من السورة وعلى صلة ذلك بالمحور.
بدأت السورة بقوله تعالى: حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ وهكذا بينت هذه الآيات بعض خصائص القرآن، ثمّ جاء بعد ذلك ما يفهم منه ضمنا موقفهم من القرآن:
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ* وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ فعرفنا ضمنا أنّهم استهزءوا بدعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وسار السياق حتى وصل إلى قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ فعرفنا صراحة أنهم كفروا بهذا القرآن، ثمّ يأتي بعد ذلك أنهم يعترضون على الله في إنزاله القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم ويرون أن غيره أحق بذلك منه- وهو موضوع سيأتي-.
وفي وسط الآيات التي مرّت ناقش الله عزّ وجل ما هم عليه من اعتقاد وعبادة، وأقام عليهم الحجة وذكر علّة موقفهم وهي التقليد. ثم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام في هذا السياق كنموذج على التحرر من التقليد الباطل، فأتمّ بذلك معالجة الاعتقاد الضال