جعل الله عزّ وجلّ صلح الحديبية فتحا ظاهرا، ورتّب عليه غفران الذنب السابق واللاحق لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإتمام النعمة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والهداية إلى الصراط المستقيم والنصر، كل ذلك رتّبه على هذا الصلح فلماذا كان هذا؟ لقد أقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الصلح تعظيما لحرمة بيت الله، فكافأه الله عزّ وجل بأن جعل هذا الصلح سببا لمغفرة ذنبه السابق واللاحق، وسببا لإتمام نعمته عليه بإظهار دينه وإعلائه فكان الصلح سببا لانتشار الإسلام إذ حميت الدعوة إليه بلا عوائق، وأرسل الرسول صلّى الله عليه وسلم الرسل إلى الملوك، وتفرّغ لإنهاء سلطان اليهود في الجزيرة العربية، وقويت قاعدة الإسلام، كما كان سببا لانتصارات مقبلة على اليهود وعلى قريش نفسها، فلم يكن فتح مكة إلا أثرا عن صلح الحديبية كما هو معروف تاريخيا، وهكذا كافأ الله رسوله صلّى الله عليه وسلم هذه المكافآت كلها ببركة تعظيمه لبيت الله، مع أن بيت الله كان تحت سلطان الكافرين. قال ابن كثير: ولما كان (أي: رسول الله صلّى الله عليه وسلم) أطوع خلق الله تعالى وأشدهم تعظيما لأوامره ونواهيه، قال حين بركت به الناقة:«حبسها حابس الفيل»، ثم قال صلّى الله عليه وسلم:«والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم شيئا يعظّمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها» فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح قال الله تعالى له إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً* وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً قال ابن كثير: أي بسبب خضوعك لأمر الله عزّ وجل يرفعك الله وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح:«وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله عزّ وجل إلا رفعه الله تعالى» وعن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (ما عاقبت أحدا عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تبارك وتعالى فيه) كان لهذا الصلح هذه الآثار المباركة، مع أن كل الصحابة لم يكونوا متحمّسين له، ولم يكونوا مرتاحين حين عقده، بدليل أن أحدا منهم لم يحلق عند ما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالتحلل حتى أبو بكر، وفي ذلك درس كبير لهذه الأمة في أن رعاية الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم- فوق كل رعاية، وأن العمل الذي يقصد فيه وجه الله وطاعته