الله يعلم كيدهم، وهو الذي يدبر للمؤمنين، وعلى المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب. وأما تدبير فرعون فقد انصب على ما يسمى باصطلاح عصرنا بالتوعية الشعبية
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي جامعين للناس بعنف، أي أرسل من يجمع الناس ليقولوا لهم:
إِنَّ هؤُلاءِ أي بني إسرائيل لَشِرْذِمَةٌ أي لطائفة قَلِيلُونَ أي إنهم لقلتهم لا يعبأ بهم
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ أي إنهم يفعلون أفعالا تغيظنا، وتضيق صدورنا
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي متيقظون بشكل دائم. يعني: ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور. فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم فساده، وهكذا لخص الله لنا بأربع آيات تدبير فرعون ضد بني إسرائيل، وهو التدبير المستمر للطغاة في كل العصور ضد أهل الحق:
يحشرون الناس، ويجمعونهم بسلطة السلطان، فيعقدون الاجتماعات والندوات، ويسيرون المسيرات للتوعية- في زعمهم- ويقولون عن أهل الحق: إنهم فئة قليلة منحرفة عن إرادة الشعب، وخارجة على إرادة الجماهير، وأنهم يقومون بأعمال إجرامية ضد السلطة، وأن على جميع الشعب أن يكون حذرا وواعيا. إن مثل هذا التسجيل الخالد لفعل فرعون، والذي ينطبق على كل زمان ومكان، لهو وحده معجزة، ومن هنا نفهم سرا من أسرار القصص القرآني، وخصيصة من خصائصه إن القصة القرآنية نموذج خالد مستمر متكرر فيه عبرة وعظة ودروس لكل إنسان، وفي كل زمان.
ثم بعد ذلك قص الله علينا عاقبة الجميع فَأَخْرَجْناهُمْ أي فرعون وقومه مِنْ جَنَّاتٍ أي بساتين وَعُيُونٍ أي وأنهار جارية
وَكُنُوزٍ أي وأموال ظاهرة من الذهب والفضة. قال النسفي: وسماها كنوزا لأنهم لا ينفقون منها في طاعة الله وَمَقامٍ أي ومنزل كَرِيمٍ أي بهي بهيج
كَذلِكَ أي الأمر كذلك، أو وأخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ أي إن كان المراد بأورثناها أورثنا بعضها كالكنوز التي استعارها منهم بنو إسرائيل ليلة الخروج فذلك التوريث كان في ليلة الخروج، وإن كان ما حدث بعد ذلك في زمن بعض ملوك بني إسرائيل كسليمان، إذ امتد نفوذ بني إسرائيل حتى غطى مصر، فذلك التوريث فيما بعد، والآية تحتمل هذا وهذا
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أي فلحقوهم داخلين في وقت شروق الشمس وهو طلوعها. وهذا يفيد أن بني إسرائيل نفذوا الأمر بالإسراء ليلا، وأن فرعون وقومه أتبعوهم، وكانت لحظة الإدراك وقت طلوع الشمس
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي تقابلا، بحيث يرى كل فريق الآخر. والمراد بالجمع بنو إسرائيل