وبعد أن أمر الله عزّ وجل بمعاداة الكافرين والبراءة منهم قال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً أي: محبة بعد البغضة، ومودة بعد النفرة، وألفة بعد الفرقة بأن يوفقهم للإيمان، وقد كان ذلك للمهاجرين يوم فتح الله مكة فأسلم قومهم وتم بينهم التحاب وَاللَّهُ قَدِيرٌ على تقليب القلوب، وتحويل الأحوال، وتسهيل أسباب المودة وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن أسلم من المشركين. قال ابن كثير: أي: يغفر للكافرين كفرهم إذا تابوا منه وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له، وهو الغفور الرحيم بكل من تاب إليه من أي ذنب كان،
وبعد أن قرر الله عزّ وجل أن الأصل بين المسلم والكافر العداء، وأنه لا ولاء بينهما ذكر من يجوز بره من الكافرين، وينبغي القسط فيه، وحدد الذين لا تجوز موالاتهم بحال فقال: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ قال النسفي: (أي: تكرموهم وتحسنوا إليهم قولا وفعلا) وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ قال النسفي: أي: وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم، وإذا نهى عن الظلم في حق المشرك فكيف في حق المسلم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي: العادلين والمعنى: لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، ولا عن القسط فيهم، لأن الله عزّ وجل يحب من اتصف بصفة العدل
ثم قال تعالى محددا من تجب معاداته، ولا تجوز موالاته إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أي: أيدوا هذا الإخراج وعاونوا عليه أَنْ تَوَلَّوْهُمْ أي: أن تعطوهم أي مظهر من مظاهر الولاء وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ منكم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ حيث وضعوا التولي في غير موضعه، ومعنى الآيتين: لا ينهاكم الله عن مبرة أولئك، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وإنما ذكر جواز المبرة والقسط مع الأولين، ولم يذكر الولاء، وذكر تحريم الولاء مع الآخرين؛ لأن الولاء لا يجوز أن يعطى أبدا إلا لأهل الإيمان. قال ابن كثير:(أي: إنما ينهاكم عن موالاة هؤلاء الذين ناصبوكم بالعداوة، فقاتلوكم وأخرجوكم وعاونوا على إخراجكم، ينهاكم الله عزّ وجل عن موالاتهم ويأمركم بمعاداتهم) فمواطنونا من غير المسلمين إذا لم يدخلوا في صراع معنا أو قتال، وإذا لم يبذلوا جهدا من أجل إخراجنا من بلادنا فهؤلاء يجوز البر لهم، والعدل فيهم، أما الولاء لهم فلا، وأعظم مظاهر الولاء في عصرنا الدخول معهم في حزب واحد، يعطيهم المسلم من خلاله الولاء، ويحجبه عن المسلمين، وأما الذين يريدون استئصال ديننا وفتنتنا عنه فهؤلاء لا ولاء لهم بل عداء،