المنعوت بغاية الكمال من خلال استعمال لفظ الإشارة ذلِكَ فكان تقريرا لجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلا بكماله لأنه لا
كمال أكمل كالحق واليقين، ولا نقص أنقص كالباطل والشبهة. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ف ذلِكَ الْكِتابُ معناه: هذا الكتاب الكامل لأن كلمة ذلِكَ فيها إشارة إلى بعده عن أن يكون على اقتراب في المستوى من غيره ولا رَيْبَ فِيهِ معناه لا شك فيه، وإنما نفى الريب على سبيل الاستغراق وقد ارتاب فيه كثير، لأن المنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له، لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه أحد، لا أن أحدا لا يرتاب، والهدى: هو الدلالة الموصلة إلى البغية، والمتقي: هو من يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك، وإنما خص المتقون بالاهتداء لأنهم وحدهم المهتدون بكتاب الله.
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وصف المتقون بالإيمان والصلاة والصدقة، فالإيمان أساس لكل شئ من الحسنات والخيرات، والصلاة والصدقة معيار العبادات البدنية والمالية، فكان من شأنهما استتباع سائر العبادات، ولذلك اختصر الكلام بأن استغني عن عد الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها، والإيمان هو التصديق، والغيب هو المغيب عنهم مما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم من كل ما غاب عنهم، سواء في ذلك أمر البعث والنشور والحساب والخلق إلى غير ذلك، وإقامة الصلاة:
أداؤها حسا ومعنى وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي ومما أعطيناهم يتصدقون
ثم أكمل الله وصف المتقين بقوله: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي بالقرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، أي سائر الكتب المنزلة على النبيين، وهذه وإن كانت داخلة في قضية الإيمان بالغيب من وجه لكن لها مظهرا محسوسا من جهة أخرى، ولأن للآخرة معنى استقباليا زائدا على كونها من الغيب، فقد خصت بالذكر وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ الإيقان هو رسوخ العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه.
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: أي الظافرون بما طلبوا، الناجون مما هربوا، فالفلاح إدراك البغية والمفلح الفائز بالبغية وفي ذكر الحرف عَلى في قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ما يدل على تمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشئ وركبه، ودخل في قوله تعالى: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ إقامة فروضها وإتمام ركوعها وسجودها وتلاوتها وخشوعها والإقبال عليها فيها، والمحافظة على مواقيتها