للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عزّ وجل- حكمته البالغة فيما حدث وهو: تمرين المسلمين وتدريبهم على تحمل المصائب، وعدم الجزع لها، وعدم المبالاة بالفائت، فقال: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ. جرعكم الغموم لئلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع. وقال ابن كثير:

أي: على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم وَلا ما أَصابَكُمْ أي ولا على مصيبة من المضار من مثل ما حدث لكم هنا من الجراح والقتل. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي: عالم بعملكم لا يخفى عليه شئ من أعمالكم. وهذا ترغيب في الطاعة، وترهيب عن المعصية. وإذ تخلف عن المسلمين نصر الله بسبب ما وقعوا فيه، فإن رحمة الله بالمؤمنين، وتوليه لهم، موجودة، فهم عباده، ولئن منعهم أو سلط عليهم، فلتأديبهم.

ومن مظاهر توليه ورحمته ما ذكره الله- عزّ وجل- بعد ما مر. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً. أي: ثم أنزل الله الأمن على المؤمنين، وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم. والمعنى أنزل عليكم نعاسا ذا أمنة.

ويبدو من السياق أن هذا قد كان بعد المعركة وقبل النفير الذي أعلنه الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني كما سنرى. ولكن بعض الروايات التي سننقلها في قسم الفوائد، تذكر أن النعاس أصاب المسلمين ليلة المعركة، ويمكن أن يكون النعاس قد أصابهم مرتين، مرة ليلة المعركة ليواجهوا المعركة مستريحين، ومرة بعد

المعركة لينسوا آثارها. والذي يدل على أن المراد بالنعاس هنا ما أصابهم بعد المعركة مجئ كلمة (ثم) التي تفيد الترتيب دون التعقيب، وقول المنافقين الآتي: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا فكلامهم هذا إنما كان بعد ما حدث للمسلمين من قتل في المعركة يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ أي: هذا النعاس يغشى قسما من المسلمين: وهم أهل الإيمان، واليقين، والثبات، والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله- عزّ وجل- سينصر رسوله، وينجز له مأموله. وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ هم المنافقون لا يهمهم إلا هم أنفسهم وخلاصها، لا هم الدين، ولا هم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا هم الجماعة المسلمة، فهؤلاء لا يغشاهم النعاس من القلق، والجزع، والخوف. يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أي: يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به، فهم يظنون ألا ينصر رسوله وجنده. ظنوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة. ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أي: الظن المختص بالملة الجاهلية، أو ظن أهل الجاهلية، أي: لا يظن مثل ذلك الظن، إلا أهل الشرك الجاهلون بالله تعالى:

<<  <  ج: ص:  >  >>