وقد يكون المراد بالحكمة والموعظة الحسنة القرآن. أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وقد يراد بالموعظة الحسنة أن يخلط الرغبة بالرهبة، والإنذار بالبشارة وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، وهو ردّ على من يأبى المناظرة في الدين ولكن من يستطيع مثل هذا المقام في الجدال؟؟ وهو التزام الطريقة الحسنى فيه، رفقا ولينا بما يعظ النفوس، ويوقظ القلوب، ويجلو العقول، والجدال غالبا ترافقه إثارة إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي قد علم الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغ منه، فادعهم إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات، فإنه ليس عليك هداهم، إنما أنت نذير عليك البلاغ، وعلينا الحساب، فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل، ولمّا كانت الدعوة إلى الله تقابل في كثير من الأحيان بالإيذاء قال تعالى:
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ أي إن صنع بكم صنيع سوء: من قتل، أو نحوه، فقابلوه بمثله، ولا تزيدوا عليه وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ أي ولئن صبرتم لصبركم خير لكم، فالمماثلة في استيفاء الحق عدل، والصبر إحسان،
ثم قال لرسوله صلّى الله عليه وسلّم الذي مقامه دائما الإحسان وَاصْبِرْ هذا عزم من الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالصبر ليدلل أن مقام الصبر هو الأرقى وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي بتوفيقه وتثبيته، هذا إخبار منه تعالى بأن الصبر لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته وقوّته وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على الكفار إن لم يؤمنوا، أو على من خالفك؛ فإن الله قدّر ذلك، أو على المؤمنين وما فعل بهم، فإنهم وصلوا إلى مطلوبهم وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ أي في غمّ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي من مكرهم.
والمعنى: ولا يضيقن صدرك من مكرهم، فإنه لا ينفذ عليك مهما أجهدوا أنفسهم في عداوتك، وإيصال الشر إليك، فإن الله كافيك وناصرك، ومؤيدك ومظهرك، ومظفرك بهم. وهذا كله مفهوم من الآية الأخيرة
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ أي معهم بتأييده ونصره، ومعونته وهديه، وهذه معيّة خاصة، والذين اتقوا: هم الذين يجتنبون المحرمات. والمحسنون: هم الذين يفعلون الطاعات، فهؤلاء الله وليّهم، فهو ولي من اجتنب السيئات، وفعل الطاعات، وقد قالوا: من اتقى في أفعاله، وأحسن في أعماله، كان الله معه في أحواله. ومعيته: نصرته في المأمور، وعصمته من المحظور.