(فرض على العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته، فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه، أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه. لقوله تعالى فى سورة النحل: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه حتى يقع عليه الاتفاق من أكثر الناس. وعلى العالم أيضا فرض أن يقلد عالما مثله في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل والنظر، أو أراد أن يجدد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب، فضاق الوقت عن ذلك، وخاف على العبادة أن تفوت، أو على الحكم أن يذهب، سواء كان ذلك المجتهد الآخر صحابيا أو غيره. وإليه ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين).
أقول: هذا في التقليد في الفروع. أما في الأصول فقد قال ابن عطية: أجمعت الأمة على إبطال التقليد في العقائد. وقد نازعه في ادعاء الإجماع علماء، خاصة إذا كان التقليد للمعصوم أو كان التقليد في حق، وكان صاحبه جازما به. حتى لو رجع الأول لبقي الثاني متمسكا بالحق. ولكن حتى من نازعوا في الإجماع فإنهم لا يخالفون في أنه: من يستطيع أن ينظر في الدليل المؤدي للأصل ثم لا ينظر فإنه آثم. فالإجماع منعقد على إثم المقلد في الأصول إذا كان قادرا على النظر، ومع حملة الشيخ القرطبي على أنواع من المتكلمين فإنه يختم كلامه بالدفاع عن المتكلمين الذين يدرسون ما يستطيعون به أن يقيموا الحجة على أعداء الله من خلال اللغة التي يفهمونها فيقول:
(ومن نظر الآن في اصطلاح المتكلمين حتى يناضل بذلك عن الدين فمنزلته قريبة من النبيين؟!. فأما من يهجن من غلاة المتكلمين طريق من أخذ بالأثر من المؤمنين، ويحض على درس كتب الكلام، وأنه لا يعرف الحق إلا من جهتها بتلك الاصطلاحات فصاروا مذمومين لنقضهم طريق المتقدمين من الأئمة الماضين، والله أعلم. وأما المخاصمة والجدل بالدليل والبرهان فذلك بين في القرآن).
وقد قال الألوسي في قضية التقليد: (وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر، وأما اتباع الغير في الدين بعد التعلم بدليل فإنه محض اتباع في الحقيقة لما أنزل الله تعالى، وليس من التقليد المذموم في شئ، وقد قال سبحانه: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ سورة الأنبياء.