(إنّ التعبير هنا بلفظ الماضي كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ بعد الأمر بالسير في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق. يثير في النفس خاطرا معينا .. ترى هنالك في الأرض ما يدل على نشأة الحياة الأولى، وكيفية بدء الخليقة فيها. كالحفريات التي يتتبعها بعض العلماء اليوم ليعرفوا منها خط الحياة؛ كيف نشأت! وكيف انتشرت؟ وكيف ارتقت؟
- وإن كانوا لم يصلوا إلى شيء في معرفة سر الحياة: ما هي؟. ومن أين جاءت إلى الأرض؟ وكيف وجد فيها أول كائن حي؟ - ويكون ذلك توجيها من الله للبحث عن نشأة الحياة الأولى، والاستدلال به عند معرفتها على النشأة الآخرة ..
ويقوم بجانب هذا الخاطر خاطر آخر. ذلك أن المخاطبين بهذه الآية أول مرة لم يكونوا مؤهّلين لمثل هذا البحث العلمي الذي نشأ حديثا؛ فلم يكونوا بمستطيعين يومئذ أن يصلوا من ورائه إلى الحقيقة المقصودة به- لو كان ذلك هو المقصود- فلا بد أن القرآن كان يطلب منهم أمرا آخر داخلا في مقدورهم، يحصلون منه على ما ييسّر لهم تصور النشأة الآخرة. ويكون المطلوب حينئذ أن ينظروا كيف تبدأ الحياة في النبات والحيوان والإنسان في كل مكان. ويكون السير في الأرض- كما أسلفنا- لتنبيه الحواس والمشاعر برؤية المشاهد الجديدة، ودعوتها إلى التأمل والتدبّر في آثار قدرة الله على إنشاء الحياة التي تبرز في كل لحظة من لحظات الليل والنهار.
وهناك احتمال أهمّ يتمشى مع طبيعة هذا القرآن؛ وهو أنه يوجّه توجيهاته التي تناسب حياة الناس في أجيالهم جميعا، ومستوياتهم جميعا، وملابسات حياتهم جميعا، ووسائلهم جميعا. ليأخذ كل منها بما تؤهله له ظروف حياته ومقدراته. ويبقى فيها امتداد يصلح لقيادة الحياة ونموها أبدا. ومن ثمّ لا يكون هناك تعارض بين الخاطرين. هذا أقرب وأولى إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ... ).
في قوله تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ معجزة قرآنية عظمى، فذكر السماء في الآية هو أثر العلم بأنّ الإنسان سيصعد إلى السماء، ومن ثمّ يخاطبه الله أنك لن تعجزني في أرضي ولا في سمائي، ودليل الإعجاز القطعي أن كلمة (في السماء) لم ترد في سورة الشورى في قوله تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ إن ذكر (في السماء) في هذه السورة لمعجزة من معجزات هذا القرآن تدلّ على أنّ الله المحيط علما بكل شئ