فَأَجْمِعُوا أي أحكموا كَيْدَكُمْ أي ما تكيدون به موسى، أي اجعلوه مجمعا عليه حتى لا تختلفوا ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي ائتوا مصطفين، اتفقوا على ذلك لأنه أدل على وحدتهم، وأوقع في قلوب الرائين وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أي وقد فاز من غلب، وهكذا حال أهل الباطل في الظاهر مجتمعون، وفي الباطن مختلفون، يتظاهرون بشيء، ويبطنون غيره، مولعون بالاستعراضات والمظاهر والمسيرات، ليغطوا بها ضعفهم النفسي،
ثم توجهوا إلى موسى بالخطاب قالُوا أي السحرة يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك أولا وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى أي اختر أحد الأمرين: إلقاؤك أولا، أو إلقاؤنا أولا، وهذا التخيير منهم أدب حسن معه، وقد وصلت بركة الأدب إليهم إذ أسلموا بعد ذلك
قالَ بَلْ أَلْقُوا أي أنتم أولا، وذلك ليبرزوا ما معهم من مكايد السحر، ويظهر الله سلطانه، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه، ويسلط المعجزة على السحر فتمحقه، فيصير آية نيرة للناظرين، وعبرة بينة للمعتبرين فألقوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أي إلى موسى مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى أي تتحرك وتضطرب، وهو عمل يشبه معجزة موسى في الظاهر، ويبدو أن سحرهم كان في غاية القوة، حتى أن موسى نفسه خيل إليه أن حبالهم وعصيهم تتحرك، ولنا في الفوائد كلام حول السحر والفارق بينه وبين المعجزة
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى أي أحس برهبة بحكم الجبلة البشرية، أو خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه، وهذا الذي رجحه ابن كثير ولم يحك غيره قال:
(أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم) والظاهر الأول وهو الذي قدمه النسفي، وليس في ذلك منقصة لموسى، بل هو الكمال ليكون قدوة، فليس الشأن ألا نحس في الخوف، ولكن الشأن ألا نستسلم له
قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي الغالب القاهر، أكد له الغلبة بأكثر من مؤكد، كما هو معلوم في اللغة
وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا أي ما زورا وافتعلوا، أي اطرح عصاك تبتلع عصيهم وحبالهم إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ ليس إلا، وكيد الساحر لا قيمة له وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أي أينما كان
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أي ألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا؛ فلعظم ما رأوا من الآية وقعوا ساجدين قال الأخفش: من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا. قال النسفي: فما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبالهم