حرّمنا عليهم لحم كلّ ذي ظفر وشحمه وكل شئ منه، ولم يحرّم من البقر والغنم إلا الشحوم، إلا ما استثني منها بقوله: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما. أي: ما اشتمل على الظهور والجنوب أَوِ الْحَوايا. هي ما اشتمل على الأمعاء فشحم الخاصرة مباح لهم أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ كالشحم الذي يخالط عظم الظهر، ومعنى هذا أنّه حرّم عليهم من الشحوم- شحوم الكلى وشحوم الألية- والأمعاء، أما الشحم الذي في الظهر، أو الشحم المختلط مع الخاصرتين والبطن، مما تكون الأمعاء داخلها، فكل هذه مباحة لهم، وسنرى في الفوائد بعض عبارات كتب اليهود ممّا يستأنس به في هذا المقام ما دام لا يعارض نصا ذلِكَ. أي: هذا التضييق عليهم جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ.
أي: بسبب ظلمهم وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرنا به
فَإِنْ كَذَّبُوكَ. أي: فيما أوحيت إليك من هذا فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ بها يمهل المكذّبين ولا يعاجلهم بالعقوبة وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. أي: فإنّه مع سعة رحمته فإنّ عذابه إذا جاء لا يردّ عن القوم المجرمين، فلا يغترّ المكذّبون بسعة رحمته عن خوف نقمته.
وبعد أن بين الله- عزّ وجل- ما حرّمه في هذه الشريعة وما حرّمه في شريعة سابقة، وبعد أن قرّر في المقدمة أنهم حرّموا ما حرّموا من الأنعام بلا علم، فإنه في الآية اللاحقة يقيم الحجّة عليهم في دعواهم أن التحريم كان بمشيئته، وبناء عليه فإن ما حرّموه وما فعلوه هو محض الحق في زعمهم، إن الآية اللاحقة تقيم عليهم الحجة في هذا الشأن، وهكذا نجد أن الآيات تلاحق قضايا التحريم ملاحقة دقيقة حتى تنهي باطلها.
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا احتجاجا لشركهم وما حرّموه لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ولكن شاء فهذا عذرنا، يعنون أن شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ما أحل الله لهم بمشيئته ولولا مشيئته لم يكن شئ من ذلك؛ وإذا شاء فقد رضي، فذلك دليل عندهم على أنّ ما فعلوه صحيح. جعلوا المشيئة تشريعا ورضا، ولا شكّ أن كل شئ بمشيئة الله، لأنّه لا يكون شئ إلا بمشيئته وقدرته، ولكنّه أرسل رسله بأمره، ورضاه لا يكون إلا بتنفيذ أمره وهم قد جعلوا المشيئة عين الرضا، فكذّبوا رسل الله ولذلك قال الله كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. أي: كتكذيبهم إيّاك، كذّب المتقدمون رسلهم، وتشبّثوا بمثل هذا فلم ينفعهم ذلك حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا. أي:
حتى أنزلنا عليهم العذاب قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ. أي: من أمر معلوم يصحّ الاحتجاج به فيما قلتم فَتُخْرِجُوهُ لَنا أي: فتظهروه لنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ.