عند قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ ... قال صاحب الظلال:
(نقف قليلا أمام تدبير الله لموسى- عليه السلام- في هذه السنوات العشر، وفي هذه الرحلة ذهابا وجيئة، في هذا الطريق ..
لقد نقلت يد القدرة خطى موسى- عليه السلام- خطوة خطوة، منذ أن كان رضيعا في المهد حتى هذه الحلقة، ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرعون، وألقت عليه المحبة في قلب امرأته لينشأ في كنف عدوه، ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهلها ليقتل منهم نفسا، وأرسلت إليه بالرجل المؤمن من آل فرعون ليحذره وينصحه بالخروج منها، وصاحبته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وهو وحيد مطارد على غير زاد ولا استعداد. وجمعته بالشيخ الكبير ليأجره هذه السنوات العشر ثم ليعود بعدها فيتلقى التكليف .. هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه، ومن التلقى والتجريب، قبل النداء وقبل التكليف .. تجربة الرعاية والحب والتدليل، وتجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس، وتجربة الندم والتحرج والاستغفار، وتجربة الخوف والمطاردة والفزع، وتجربة الغربة والوحدة والجوع، وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة القصور، وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة، والمشاعر المتباينة، والخوالج والخواطر، والإدراك والمعرفة .. إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة.
إن الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات؛ يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي. إلى جانب هبة الله اللدنية، ووحيه وتوجيهه للقلب والضمير.
ورسالة موسى بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر- عدا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم- فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر، أعتى ملوك الأرض في زمانه، وأقدمهم عرشا، وأثبتهم ملكا، وأعرقهم حضارة، وأشدهم تعبدا للخلق واستعلاء في الأرض. وهو مرسل لاستنقاذ قوم من كئوس الذل حتى استمرءوا مذاقه فمردوا عليه واستكانوا دهرا طويلا. والذل يفسد الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن، ويذهب بما فيها من الخير والجمال والتطلع ومن الاشمئزاز من العفن والنتن والرجس والدنس. فاستنقاذ قوم