عزّ وجل قد تحدث من قبل عن الوقوف بعرفات. ففصل في الحديث عن عرفات، بالوقوف في مزدلفة؟. الجواب- والله أعلم- يكمن في ترتيب هذا القول على ما قبله مباشرة: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ. فمن نماذج ضلالهم التي هداهم الله عزّ وجل إلى تركها هذا الوضع الشاذ الذي كانت عليه قريش بأن تميز نفسها عن الناس، فلا تقف بعرفات مع أهمية الوقوف فيها وفي ذلك ما فيه من تميز باطل وفي ذلك ما فيه من الإخلال بالحكمة في وقوف الناس عامة في عرفات لينطلقوا بأعظم مظاهرة تعرفها البشرية، معظمة الله وشعائره، وبيته. ومهينة عدو الله، إبليس. وإذن فهذه الآية أمر من ناحية. وفي هذا الأمر نموذج على الهداية من الضلال المذكور سابقا.
بقي أن نعرف أن (ثم) التي هي حرف عطف، تعطف هذه الآية على ماذا؟ الظاهر أنها تعطفها على قوله تعالى: وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ فيكون الترتيب من حيث المعنى وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ .. ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ.
[المعنى الحرفي]
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي: ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس من عرفات. فهذا أمر لقريش خاصة بسبب الوضع الشاذ الذي كان لها، ولكل إنسان عامة. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: واستغفروا الله من مخالفتكم في الموقف، ونحو ذلك من جاهليتكم، أو من التقصير في أعمال الحج إن الله غفور لكم إذا استغفر تموه، رحيم بكم، يعلم ضعفكم.
[فوائد]
١ - من مظاهر الحج في الجاهلية أن المرأة من غير أهل الحرم كانت تطوف عارية عريا تاما إلا إذا كستها امرأة من أهل الحرم، ومن مظاهر الحج عندهم أن قريشا كانت تميز نفسها عن بقية الناس فلا تقف مع الناس في عرفات، وأن السعي بين الصفا والمروة كان سعيا بين صنمين إساف ونائلة، وأن البيت كان محفوفا بالأصنام من فوقه ومن حوله، قارن ذلك كله بالحج في الإسلام، لترى فضل الله على الإنسان في هدايته إلى معالم العبادة الصحيحة، وسنرى، في سورة الحج موضوع الحج عند الأمم لندرك الفارق الكبير بين عبادة تربي وتهذب، وتكمل وتحقق بالكمالات في كل حركة