القرآن فأتوا أنتم بسورة من جنس هذا القرآن، واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجان، فإذ لم تفعلوا فقد قامت عليكم الحجة أن هذا القرآن من عند الله، ولم يبق إلا الإيمان والتسليم إن كنتم منصفين، ولكن هل تكذيبهم أثر عن تفكير وتدبر وعلم وعقل؟ لا.
قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ أي بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، فتكذيبهم إذن تكذيب بما لم يعرفوا ولم يفهموا وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي ولم يأتيهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب، أي عاقبته حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق، يعني: أنه كتاب معجز من جهتين: من جهة إعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب، فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز، وقبل أن يجربوا إخباره بالمغيبات وصدقه. والآية تفيد أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر، ومعرفة التأويل تقليدا للآباء، واستعمال كلمة لما في هذا المقام يفيد أنهم علموا من بعد علو شأنه وإعجازه، وبقوا مصرين على التكذيب بغيا وحسدا، وإذن فهؤلاء كذبوا بهذا القرآن، ولم يفهموا ولم يعرفوا ولم يستوعبوا ما فيه من الهدى ودين الحق سفها وجهلا كَذلِكَ أي مثل ذلك التكذيب الذي لا يقوم على دليل كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم السالفة أي كذلك كذبوا رسلهم قبل النظر في معجزاتهم، وقبل تدبرها عنادا أو تقليدا للآباء فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلما وما كذبوهم إلا وعلوا وكفرا وعنادا وجهلا، فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي ومنهم من يصدق بالقرآن في نفسه، ويعلم أنه حق ولكنه يعاند بالتكذيب وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ أي ومنهم من لا يصدق به ويشك فيه وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أي بالمعاندين المصرين الصادين عن سبيل الله، ويحتمل أن يكون المعنى: ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك بما أرسلت به، ومنهم من لا يؤمن به ويموت على ذلك ويبعث عليه، وربك أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة- وهم المفسدون- فيضله، فهو العادل الذي لا يجور، بل يعطي كلا من هؤلاء ما يستحق تبارك وتعالى وتقدس وتنزه لا إله إلا هو، ويحتمل أن يكون المعنى: ومنهم من سيؤمن به، ومنهم من سيصر، وربك أعلم بالمفسدين الذين يستحقون الضلال بسبب من إفسادهم، وهكذا