للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسبب ذلك أن المسلم إذا تخلف عن الجهاد حزن، كما سيمر معنا في سورة براءة، وإذا جاهد رغب أن يكون جهاده خالصا لوجه الله تعالى، فهو يخجل من إظهار العمل، وهؤلاء عكس ذلك، فهم في الطرف المقابل من أهل الإيمان في أخلاقهم.

وعلى هذا الاتجاه فما الصلة بين هذه الآية وما قبلها؟ الصلة- والله أعلم- أن الجهاد طريق إظهار الحق. وهؤلاء لا يشاركون فيه، ويحبون أن يحمدوا بأنهم من أهله، وإذا نظرنا إلى لفظ الآية ونصها، فإننا نرى فيها وعيدا لمن يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب. ويحب أن يحمده الناس بما ليس فيه، وقوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أي: لا تحسبنهم فائزين، أي لا تحسبنهم بمنجاة من عذاب الله. وبعد هذا نقول: إن نقطة الخطأ في الفهم هي: أن يفهم فاهم أن مجرد فرحه بفعله يستحق به عذاب الله، وذلك أن الفرح إذا كان بفضل الله، فذلك شئ مشروع، وإنما تدخل في الآية ثلاث حالات (والله أعلم): الحالة الأولى: أن يكتم إنسان ما أنزل الله، ويحب أن يحمد على أنه من المجاهرين به. والحالة الثانية: أن يتخلف إنسان عن طاعة الله، وهو فرح بهذا التخلف، ويحب أن يحمد على أنه من القائمين بأمر الله. والحالة الثالثة: أن يفرح الإنسان بعمله فرح إعجاب- إذ العجب يحبط العمل- ويحب أن يتظاهر بغير ما هو له، وأن يحمد به، وقد قال ابن كثير في شرح الآية: يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم «من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها، لم يزده الله إلا قلة» وفي الصحيحين أيضا «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور .. ».

ونذكر بما قلناه من قبل بهذه المناسبة كيف أن هذا القرآن لا تنتهي عجائبه ومعانيه.

فمن خلال السياق الجزئي نفهم شيئا، ومن خلال السياق العام نفهم شيئا، ومن خلال المعنى الحرفي نفهم شيئا، ولا يتناقض هذا مع هذا، بل يكمله ويتممه.

ثم قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أي:

هو المالك لكل شئ، وهو القادر على كل شئ، ومجئ هذه الآية في السياق مرتبط بما قبله من ناحية أن الذين يكتمون، إنما يشترون بكتمانهم ثمنا قليلا. فذكرهم الله بأنه هو مالك كل شئ، وبيده العطاء. ومن ناحية أن الذين يفرحون بما أتوا يستحقون العذاب. وقدرة الله محيطة بهم تنالهم لتعذبهم. إن التذكير بمالكية الله للأشياء كلها، وقدرته على الأشياء كلها، وتذكر ذلك، هو المصفي لكل أمراض النفوس.

<<  <  ج: ص:  >  >>