روى الإمام أحمد أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا، لنعذبن أجمعين؟ فقال ابن عباس: وما لكم وهذه؟ إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس:
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ .. إلى قوله تعالى فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ وهذه الآية:
لا تَحْسَبَنَّ ... وقال ابن عباس سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شئ فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه.
فالآية إذن أول ما يدخل فيها- إذا نظرنا إلى معناها من خلال السياق- هذا الذي ذكره ابن عباس. ومن ثم لاحظنا أن ابن عباس ربط بين هذه الآية وما قبلها، وعلى هذا فمعنى الآية: لا تظنن الذين يفرحون بما أتوه من كتمان الحق الذي أنزله الله، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من إظهار الحق، لا تحسب أنهم ناجون من العذاب، بل لهم عذاب أليم.
على أنه إذا فهمنا الآية هذا الفهم من خلال سياقها، فإننا يمكن أن نفهمها فهما آخر من خلال نصها. وقد روى البخاري وغيره سببا لنزول الآية غير ما ذكرنا، ومنه نفهم أن الآية تفهم من خلال نصها مما يدخل فيها غير الحالة الأولى.
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو، اعتذروا، وأحبوا أن يحمدوا على ما لم يفعلوا فنزلت: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ .. الآية.
وفي رواية ابن مردويه عن أبي سعيد: إنما ذاك أن ناسا من المنافقين يتخلفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا، فإن كان فيهم نكبة فرحوا بتخلفهم، وإن كان لهم نصر من الله وفتح، حلفوا لهم ليرضوهم، ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح. وعلى هذا يصبح معنى الآية: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوه من تخلف عن أمر الله، وأمر رسوله، ويحبون مع هذا أن يحمدوا بأنهم من أهل الإيمان والجهاد، وهم لم يفعلوا ما يدل على ذلك، فلا تحسب أن هؤلاء بمنجاة من العذاب.