وإذ وصل السياق إلى ما مرّ فإنّ الله يأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن ثلاثة إعلانات:
الإعلان الأول: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. أي: قل إنّي صرفت وزجرت بأدلة العقل والسمع عن عبادة ما تعبدون من دون الله قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ. أي: لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتّباع الهوى دون اتّباع الدليل، وفي النّص بيان للسبب الذي به وقعوا في الضلال وهو اتّباع الهوى قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً. أي: إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ في شئ، وهذا يعني أنكم لستم مهتدين أبدا،
والإعلان الثاني: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي لمّا نفى أن يكون الهوى متّبعا، نبّه على ما يجب اتّباعه وهو شريعة الله، والمعنى: إني من معرفة ربي وأنّه لا معبود سواه على حجة واضحة، أو إني على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إليّ وَكَذَّبْتُمْ بِهِ. أي: بالله حيث أشركتم به غيره ويمكن أن يكون المراد: وكذبتم بالبيّنة أي بالقرآن، فيكون المعنى: إنّي على حجّة من جهة ربي وهو القرآن، وكذّبتم بهذه البيّنة، ثمّ عقّبه بما دلّ على أنهّم أحقّاء بأن يعاقبوا بالعذاب لذلك فقال: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. أي: من العذاب إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. أي: إنما أمر ذلك إلى الله إن شاء عجّل لكم ما سألتموه من ذلك، وإن شاء أنظركم وأجّلكم لما له من الحكمة العظيمة يَقُصُّ الْحَقَّ. أي: لا يفعل إلا
حقا ولا يأمر إلا بحق فيما يحكم به، ويقدّره، وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ.
أي: خير الفاصلين بالقضاء الحق إذ الفصل: هو القضاء،
ثم يأتي الإعلان الثالث قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي. أي: في قدرتي وإمكاني ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. أي: من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. أي: لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ومن ثم فهو ينزل العذاب على مقتضى علمه وحكمته في الوقت المناسب.
فائدة: [في الجمع بين الآية (٥٨) وبعض ما ورد في السنة]
بمناسبة هذه الآية الأخيرة يقول ابن كثير: فإن قيل فما الجمع بين هذه الآية، وبين ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: «لقد لقيت من قومك وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما