صاحب الظلال: (ومشهد الطير مسخّرات في جو السماء مشهد مكرور، قد ذهبت الألفة بما فيه من عجب، وما يتلفت القلب البشري عليه إلا حين يستيقظ، ويلحظ بعين الشاعر الموهوب. وإن تحليقة طائر في السماء لتستجيش الحس الشاعر إلى القصيدة حين يلمسه. فينتفض للمشهد القديم الجديد .. ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ بنواميسه التي أودعها فطرة الطير، وفطرة الكون من حولها، وجعل الطير قادرا على الطيران، وجعل الجو من حولها مناسبا لهذا الطيران. وأمسك بها الطير لا تسقط وهي في جو السماء: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .. فالقلب المؤمن هو القلب الشاعر ببدائع الخلق والتكوين، المدرك لما فيها من روعة باهرة تهز المشاعر وتستجيش الضمائر. وهو يعبر عن إحساسه بروعة الخلق، بالإيمان والعبادة والتسبيح، والموهوبون من المؤمنين هبة التعبير، قادرون على إبداع ألوان من روائع القول في بدائع الخلق والتكوين، لا يبلغ إليها شاعر لم تمس قلبه شرارة الإيمان المشرق الوضيء».
٣ - [كلام صاحب الظلال عند الآية وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً]
وبمناسبة قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً قال صاحب الظلال:
(والسكن والطمأنينة في البيوت نعمة لا يقدرها حق قدرها إلا المشرّدون الذين لا بيوت لهم ولا سكن ولا طمأنينة. وذكرها في السياق يجئ بعد الحديث عن الغيب، وظل السكن ليس غريبا عن ظل الغيب، فكلاهما فيه خفاء وستر. والتذكير بالسكن يمس المشاعر الغافلة عن قيمة هذه النعمة.
ونستطرد هنا إلى شئ عن نظرة الإسلام إلى البيت، بمناسبة هذا التعبير الموحي:
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً .. فهكذا يريد الإسلام البيت مكانا للسكينة النفسية والاطمئنان الشعوري، هكذا يريده، مريحا تطمئن إليه النفس وتسكن وتأمن سواء بكفايته المادية للسكنى والراحة، أو باطمئنان من فيه بعضهم لبعض، وبسكن من فيه كل إلى الآخر: فليس البيت مكانا للنزاع والشقاق والخصام. إنما هو مبيت وسكن وأمن واطمئنان وسلام.
ومن ثم يضمن الإسلام للبيت حرمته، ليضمن له أمنه وسلامه واطمئنانه. فلا يدخله داخل إلا بعد الاستئذان، ولا يقتحمه أحد- بغير حق- باسم السلطان، ولا يتطلع أحد على من فيه لسبب من الأسباب، ولا يتجسس أحد على أهله في غفلة منهم