جلاله» شرحنا كيف أن ظواهر هذا الكون تدل أصحاب العقول- بما لا يقبل شكا- على الله، وذلك أن كل قوانين العقل والعلم تشهد على أن لهذا الكون بداية، فهو حادث، وحدوثه يدل على محدثه، ومحدثه أزلي قديم، وإلا لاحتاج إلى محدث آخر، إلى ما لا يتناهى، وحسن صنعه يدل على علمه، وإتقانه يدل على حكمته ..
ثم وصف الله أولي الألباب أي: الذين خلصت عقولهم عن الهوى خلوص اللب عن القشر، فقال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: الذين اجتمع لهم دوام الذكر، وعبادة الفكر في ملكوت السموات والأرض. وفسر الذكر في الآية بالصلاة، كما ثبت في الصحيحين عن عمران ابن حصين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنبك» كما فسر بالذكر الدائم في جميع الأحوال، بالسرائر والضمائر والألسنة. والتفسير الأول: هو تفسير للذكر بالذكر المفروض، والتفسير الثاني: هو تفسير للذكر بالذكر المسنون، فقد وصفت عائشة حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه» والتفكير في خلق السموات والأرض يدخل فيه التفكير في الظواهر الدالة على عظمة الخالق، وقدرته، وعلمه، وحكمته، واختياره، ورحمته، وكبرياء سلطانه، بما يستجيش في النفس، وعلى اللسان ما يأتي: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا. هذا الذي يستجيشه تفكيرهم أن يقولوا: ربنا ما خلقت هذا الخلق عبثا بغير حكمة، بل خلقته لحكمة عظيمة، لتكون أدلة للمكلفين على معرفتك. خلقته بالحق لتجزي الذين أساءوا بما عملوا، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى. سُبْحانَكَ أي: تنزيها لك عن العبث وخلق الباطل. فَقِنا عَذابَ النَّارِ جزاء ما عرفناك ونزهناك، أي: يا من خلق الخلق بالحق والعدل، يا من هو منزه عن النقائص، والعيب، والعبث، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من عذابك الأليم.
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ. أي: أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي: يوم القيامة لا مجير منك، ولا محيد لهم عما أردت بهم، ولا شفعاء لهم ولا أعوان.
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أي: داعيا يدعو إلى الإيمان، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا أي: يقول: آمنوا بربكم فآمنا، أي: فاستجبنا له واتبعناه. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي: استر كبائرنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا أي: وامح عنا خطايانا