لهم، أو أديل عليهم، غلبوا أو غلبوا، ومن نظر إلى الأمر بعين الحكمة، وبعين مريد الآخرة، علم أن الابتلاء رحمة، كما أن النصرة رحمة،
ثم بين الله- عزّ وجل- كيف تم الصرف الذي ذكره بقوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ فقال إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ هذا تصوير حالهم في الهزيمة بمنتهى الاختصار، وبأبلغ تصوير. فما أعظم إعجاز هذا القرآن، ولنر ما حوى هذا الوصف:
معنى تصعدون: أي تبالغون في الذهاب في صعيد الأرض، والإصعاد: الذهاب في صعيد الأرض والإبعاد فيه. وبعضهم فسر الإصعاد: بصعود بعضهم إلى جبل أحد فرارا، والواقع يدل على الأول. قال السدي: لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم، دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة. ومعنى قوله وَلا تَلْوُونَ أي: ولا تلتفتون على أحد، وهو تعبير عن مدى انهزامهم وخوفهم من عدوهم. وقوله تعالى: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي: في ساقتكم وجماعتكم الأخرى، وهي المتأخرة، وهذا يفيد أنهم خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، وأنه عليه السلام لم يفر، بل كان- وهو في هذه الحالة- يدعوهم إلى ترك الفرار، وإلى الرجعة والعودة والكرة، كما ورد في السيرة أنه عليه السلام كان يناديهم «إلي عباد الله، إلي عباد الله». فصار المعنى العام: ولقد صرفكم الله عنهم بعد نصره لكم عليهم، فأصبحتم بعد النصر ممعنين في الهرب منهم في كل صعيد من الأرض، لدرجة أن الواحد منكم لم يعد يلتفت على أحد قريب أو بعيد، حبيب أو عظيم، وخلفتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة وهو يدعوكم ولا تستجيبون، إلا من ثبت معه وهم قليل. هذا حالكم بعد النصر، وكل ذلك إنما كان بسبب الخطأ الذي ارتكب:
فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ أي: فجازاكم بالهزيمة وتوابعها، وهذا هو الغم العظيم، بسبب غم وقعتم فيه، وأذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخالفتكم أمره. ويمكن أن يكون المعنى فجازاكم الله بغم بعد غم، وغم متصل بغم، من الجرح، والقتل، وظفر المشركين، وفوت الغنيمة، والنصر. وأعظم غم أصابهم سوى هذا كله، ما أرجف به من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا كله بسبب الصرف الذي سببه الجبن، والاختلاف، والعصيان، بسبب عدم خلوص نية بعضهم، إذ لم تتمحض للآخرة، فهذه العلة الكبرى قال ابن مسعود: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أحد مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثم بين الله-