في هذا الموضوع مظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن، إذ حدثنا القرآن عن كثير من الأمور الماضية، مما لا يعرفها العرب إطلاقا، وعلى غاية من الدقة، بما لا يمكن أن يكون لو لم يكن هذا القرآن من عند الله المحيط علما بكل شئ.
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ مبشرة مريم يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله، أي يقول له: كن فيكون اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ هذا اسمه الذي يعرفه به المؤمنون. وفي قوله ابن مريم إعلام لها بإنه يولد من غير أب، فلا ينسب إلا إلى أمه، وفي ذلك شرف لها وبشارة. واختلفوا لماذا سمي المسيح؟ فقيل: لأنه إذا مسح ذا عاهة برأ، وقيل: لكثرة سياحته فلا يستوطن مكانا، وقيل: معناه في العبرانية المبارك وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي: ذا جاه وقدر في الدنيا بالنبوة والطاعة، وفي الآخرة بعلو الدرجة والشفاعة. وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عند الله.
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أي: يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له. في حال صغره معجزة وآية، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه، فهو يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يكمل فيها العقل، وينبأ فيها الأنبياء وَمِنَ الصَّالِحِينَ أي: في قوله وعمله، له علم صحيح، وعمل صحيح.
فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك عن الله قالَتْ مناجية ربها: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ تقول متعجبة متهيبة:
كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج، ولا من عزمي أن أتزوج، ولست بغيا؟؟ فقال لها الملك عن الله- عزّ وجل- في جواب ذلك السؤال قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي: هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شئ، وصرح هاهنا بقوله يَخْلُقُ ما يَشاءُ وفي قصة زكريا يَفْعَلُ ما يَشاءُ صرح بلفظ الخلق لئلا يبقى لمبطل شبهة، وأكد ذلك
بقوله إِذا قَضى أَمْراً أي إذا قدره فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي: فلا يتأخر شئ أراد خلقه. والتعبير بلفظة كن، إخبار عن سرعة تكون الأشياء بتكوينه،
ثم أخبر عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليهما السلام وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ يحتمل هنا الكتابة، أو كتب الله أو ما افترضه الله من المكتوبات على الخلق وَالْحِكْمَةَ أي: وضع الأمور في مواضعها على ضوء الحلال والحرام وَالتَّوْراةَ التي