سورة المائدة فصّلت في موضوع العبادة، والتقوى، وبشّرت أهل الإيمان والعمل الصالح، وعرّفت على الله، وعمّا يقرّب إليه، وما يبعد عنه، مع أنها قررت القضايا التي بها يكون الإنسان من الفاسقين، فحذّرت منها، وضربت الأمثلة على أنواع من نقض الميثاق، أو قطع ما أمر الله به أن يوصل، أو على أنواع من الإفساد في الأرض، وطالبت بما يقابل ذلك من أخلاق الإيمان.
ولنذكّر بشيء كنّا ذكرناه من قبل: بدأ المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ... وانتهى بقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وبدأت سورة النساء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ وانتهت بقوله تعالى:
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وهذا يشعرنا أن محور سورة النساء هو المقطع كله، ولكن من خلال المعاني رأينا وسنرى أن الآيات الأربع الأخيرة في المقطع فصلتها سورتا المائدة والأنعام.
[فصل في عالمية القرآن]
لم يحدّثنا القرآن الكريم إلا عن خمسة وعشرين رسولا، ولكنه أخبرنا أنه أرسل إلى كل أمّة لها لسانها الخاص رسولا وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا. (النحل: ٣٦) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (إبراهيم: ٤٠) إن اختيار خمسة وعشرين رسولا من مجموع الرسل عليهم الصلاة والسلام هو الذي تحتاجه البشرية لاستيعاب كل ما يلزمها في قضية العبرة والقدوة، وبما يغطي الحياة كلها فمن خلال هذه القصص الحق لا يجد الإنسان حالة إلا ويرى العبرة والقدوة التي تلائم الحال التي هو عليها، ومن ثم كانت قصص القرآن- على محدودية عددها- مغطية للحياة البشرية في كل الأزمان والأماكن.
وقد أخذت قصص أقوام الأنبياء وخاصة بني إسرائيل والنصارى حيزا كبيرا، وما ذلك إلا لأن ما وقعوا به يشبه ما وقعت به الأمم الأخرى، وما يمكن أن تقع فيه أمتنا، ولذلك فإنه وإن لم يذكر في القرآن كل الأمم وانحرافاتها، وكل الأديان وانحرافاتها، فإنّه ما من حادثة ولا انحراف إلا وقد قصّ علينا فيه ما نعرف أنّه انحراف، ومن خلال ما ذكر نعرف حكم ما لم يذكر. فمثلا في هذا العالم ديانات كبرى، كالديانة البوذية والمجوسية، والبرهمية، والكونفوشيوسية، لم تذكر صراحة في القرآن، ولكن من التتبع