يجعل الله فيه من الآثار المباركة ما لا تخطر على بال، مهما ظن الناس أن في هذا العمل انكسارا أو انحسارا أو تراجعا أو ذلا، كما نظر عمر إلى المعاهدة على أنها إعطاء الدنية في دين الله عزّ وجل، وفي تسمية الله المعاهدة فتحا درس كبير للمسلمين في أن الفتح ليس فقط في العمل العسكري، بل قد يكون في العمل السياسي، حتى الذي ظاهره تراجع أو ذلة. ولنعد إلى التفسير.
*** هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ أي: الطمأنينة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن كثير: (وهم الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلم وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت، زادهم إيمانا مع إيمانهم .. ) ومن ثم قال تعالى لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي: ليزدادوا يقينا إلى يقينهم وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ منه الجند الحسي ومنه الجند الغيبي، ومنه الجند المعنوي، ومن جنوده السكينة التي ينزلها الله على من يشاء من عباده وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً يسخّر ما يشاء فيما شاء حَكِيماً في أفعاله وأقواله وشرعه، وفي هذه الآية منّة جديدة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ أنزل السكينة على المؤمنين في أكثر من موقف، وفي أشدّ اللحظات حراجة، ومن ذلك عند ما أحسوا بهزة نفسية نتيجة المعاهدة، ومع ذلك أطاعوا ونفّذوا،
ثم بيّن الله عزّ وجل حكمته في الفتح، وفي إنزال السكينة وهي كما سجّلتها الآيتان اللاحقتان: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أي: ماكثين فيها أبدا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي: خطاياهم وذنوبهم فلا يعاقبهم عليها، بل يعفو ويصفح، ويغفر ويستر، ويرحم ويشكر وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وأي فوز أعظم من الفوز بدخول الجنة والزحزحة من النار
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ قال ابن كثير:(أي يتهمون الله تعالى في حكمه، ويظنون بالرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية) وقال النسفي (والمراد ظنهم أن الله تعالى لا ينصر الرسول صلّى الله عليه وسلم- والمؤمنين ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين فاتحيها عنوة وقهرا) ولهذا قال تعالى عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي: ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم