عزّ وجل لا يترك شيئا بلا بيان، ولا يأمر أمرا إلا ويعلم الإنسان كل ما يلزم لتحقيقه وتنفيذه، ثم طوى السياق ما بين الأمر وما بين تنفيذه وحدثنا مباشرة عما كان جواب فرعون لهما والتقدير:
فأتياه وأديا الرسالة وقالا له ما أمرا به
فكان الجواب: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى خاطب موسى لأنه الأصل في النبوة وهارون تابعه، أو لأنه يعرفه من قبل
قالَ موسى رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى أي أعطى كل شئ صورته وشكله وجبلته التي تطابق الحكمة التي من أجلها خلق، ثم هداه ليسير في طريقه المحدد بما يحقق الحكمة في هذا الكون، وقد كانت هذه الآية مضمون ظاهرة كاملة كتبناها في كتابنا (الله جل جلاله) هي ظاهرة (الهداية) استدللنا بوجود الهداية في المخلوقات الحسية والمعنوية الصغيرة والكبيرة الحية وغير الحية على وجود ذات هادية أعطت كل شئ خلقه، ثم هدته، دلل بوجود ظاهرة الهداية في الكون على خالق الكون، فما أعظم هذا القرآن، وما أعظم ما ألهم الله موسى من حجة.
قال صاحب الظلال عند هذه الآية:(قال رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى .. ربنا الذي وهب الوجود لكل موجود في الصورة التي أوجده بها وفطره عليها. ثم هدى كل شئ إلى وظيفته التي خلقه لها، وأمده بما يناسب هذه الوظيفة ويعينه عليها. و (ثم) هنا ليست للتراخي الزمني. فكل شئ مخلوق ومعه الاهتداء الطبيعي الفطري للوظيفة التي خلق لها، وليس هناك افتراق زمني بين خلق المخلوق وخلق وظيفته، وإنما هو التراخي في الرتبة بين خلق الشئ واهتدائه إلى وظيفته فهداية كل شئ إلى وظيفته مرتبة أعلى من خلقه غفلا وهذا الوصف الذي يحكيه القرآن الكريم عن موسى- عليه والسلام- يلخص أكمل آثار الألوهية الخالقة المدبرة لهذا الوجود:
هبة الوجود لكل موجود، وهبة خلقه على الصورة التي خلق بها. وهبة هدايته للوظيفة التي خلق لها .. وحين يجول الإنسان ببصره وبصيرته- في حدود ما يطيق- في جنبات هذا الوجود الكبير تتجلى له آثار تلك القدرة المبدعة المدبرة في كل كائن صغير أو كبير.
من الذرة المفردة إلى أضخم الأجسام، ومن الخلية الواحدة إلى أرقى أشكال الحياة في الإنسان. هذا الوجود الكبير المؤلف مما لا يحصى من الذرات والخلايا، والخلائق والأحياء، وكل ذرة فيه تنبض، وكل خلية فيه تحيا، وكل حي فيه يتحرك، وكل كائن فيه يتفاعل أو يتعامل مع الكائنات الأخرى .. وكلها تعمل منفردة ومجتمعة داخل إطار