أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من التوراة، والإنجيل، والزبور خاشِعِينَ لِلَّهِ أي: مطيعين خاضعين متذللين لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي: لا يكتمون ما يعلمون من مثل صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، والتبشير ببعثته، ورسالته، كما يفعل من منعه الكبر من الأحبار، والرهبان، والمتكبرين، وهؤلاء الذين وصفهم الله هم خيرة أهل الكتاب، وصفوتهم، إذ جمع الله لهم الإيمان التفصيلي بما أنزل، ولذلك وعدهم هنا فقال:
أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: أولئك لهم الأجر المختص بهم عند ربهم وهو ما وعدهم الله به في قوله: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ (سورة القصص) إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ حسابه سريع لنفوذ علمه في كل شئ.
ثم ختم السورة بهذه الآية الجامعة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: اصبروا على الدين وتكاليفه، وصابروا أعداء الله في الجهاد، أي: غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب، ولا تكونوا أقل صبرا منهم وَرابِطُوا أي: أقيموا في الثغور مترصدين لقتال أعداء الله، أو رابطوا في المساجد مستعدين
لحرب الشيطان وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمر ونهى. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بوراثة الجنة، ونيل رضوان الله. والفلاح: البقاء مع المحبوب بعد الخلاص عن المكروه، وإنما قال: لَعَلَّكُمْ لئلا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال. ولنعد ذكر التشابه بين قوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وبين قوله تعالى هنا في آخر آل عمران: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ*. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
ولنلاحظ ذكر الإيمان بما أنزل علينا، وما أنزل من قبل، وذكر الفلاح لندرك ما كررناه من أن سورة آل عمران تفصيل لمحورها من سورة البقرة، وهي مقدمتها وماله علاقة مباشرة بهذه المقدمة من بقية سورة البقرة، ولكن على نسق جديد.
وإذ انتهينا من هذا المقطع نحب أن نذكر أن فيه تصحيحا لمفاهيم، فهو من هذه الناحية استمرار لما قبله، ولأنه ختام القسم الثاني كله، وختام السورة فقد أدى أكثر من هدف.