راعي غنم يجد القوت والمأوى، بعد الخوف والمطاردة والمشقة والجوع. وأن ينزع من حسه روح الاشمئزاز من الفقر والفقراء، وروح التأفف من عاداتهم وأخلاقهم وخشونتهم وسذاجتهم، وروح الاستعلاء على جهلهم وفقرهم ورثاثة هيئتهم ومجموعة عاداتهم وتقاليدهم. وأن تلقي به في خضم الحياة كبيرا بعد ما ألقت به في خضم الأمواج صغيرا ليمرن على تكاليف دعوته قبل أن يتلقاها ..
فلما أن استكملت نفس موسى- عليه السلام- تجاربها، وأكملت مرانتها ودربتها، بهذه التجربة الأخيرة في دار الغربة، قادت يد القدرة خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه، ومقر أهله وقومه ومجال رسالته وعمله، يتلقاها، سالكة به الطريق التي سلكها أول مرة وحيدا طريدا خائفا يتلفت. فما هذه الجيئة والذهوب في ذات الطريق؟ إنها التدريب والمرانة والخبرة حتى بشعاب الطريق. والطريق الذي سيقود فيه خطى قومه بأمر ربه، كي يستكمل صفات الرائد وخبرته، حتى لا يعتمد على غيره ولو في ريادة الطريق. فقومه كانوا في حاجة إلى رائد يقودهم في الصغيرة والكبيرة، بعد أن أفسدهم الذل والقسوة والتسخير، حتى فقدوا القدرة على التدبير والتفكير.
وهكذا ندرك كيف صنع موسى على عين الله، وكيف أعدته القدرة لتلقي التكليف. فلنتتبع خطى موسى تنقلها يد القدرة الكبرى، في طريقه إلى هذا التكليف).
*** التفسير:
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أي الأكمل منهما وَسارَ بِأَهْلِهِ أي بامرأته نحو مصر آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً أي رأى نارا تضيء على بعد قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي حتى أذهب إليها لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي عن الطريق لأنه قد ضل الطريق أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ أي قطعة منها لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي تستدفئون بها من البرد
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ أي من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ بتكليم الله تعالى فيها مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ أي ونودي أن ألق عصاك فألقاها فقلبها الله ثعبانا فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ أي تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ أي حية في سعيها وهي ثعبان في جثتها