الأول يذكر الله- عزّ وجل- ما حرم علينا: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ .. ويأتي في هذا المقطع ذكر ما حرّمه الناس ولم يحرمه الله. ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ. وفي المقطع الأول يأتي قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ويأتي في هذا المقطع قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. وفي المقطع الأول يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا. ويختم هذا المقطع بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ .. فههنا فقرة عن إقامة الشهادة في حالة من الحالات.
فما بين المقطع الأول، والمقطع الأخير صلات واضحة، وما بين المقاطع التي ذكرت في الوسط، والمقطع الأول والأخير صلات واضحة كذلك، فالسورة لها سياقها الخاص، ومع ذلك فإنها تفصّل في محورها من سورة البقرة لتأخذ محلها في بناء صرح المعاني القرآنية على تسلسل معيّن، ونسق معيّن.
ولعل في الكلمة الأخيرة عن السورة ما يزيد هذا الأمر بيانا، فلنبدأ عرض معاني المقطع:
[المعنى العام للمقطع]
يبدأ هذا المقطع بالنهي عن تحريم ما أحل الله بالسير في غير سنة المسلمين في أمر النّساء، أو الطعام، أو الشّراب، أو اللباس، أو العادات، أو غير ذلك. وكما نهى عن تحريم الحلال، فقد نهى عن الاعتداء، لأن الله لا يحب أهله. والاعتداء في هذا المقام يحتمل التضييق على الأنفس بتحريم المباحات، أو تعذيب الجسد. ويحتمل الإسراف في تناول الحلال، فيكون طلبا بالأخذ من الحلال بقدر الكفاية والحاجة، إذ دين الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه، لا إفراط ولا تفريط. ثم أمر الله- عزّ وجل- بالأكل من الحلال الطيّب، كما أمر بالتقوى في جميع الأمور باتّباع طاعته ورضوانه، وترك مخالفته وعصيانه. إذ مقتضى الإيمان بالله أن يتّقى. رأينا أنّ سورة المائدة امتداد لسورة النساء، وهي من هذه الحيثيّة تكمّل بناء التقوى، وتدلّ على طريقها، وهي في الوقت نفسه تحرير للإنسان من كل الصفّات التي يضل بسببها أصحابها، فهي تخلية وتحلية.