الكتب عليهم. قال أبو العالية في تفسيرها:«بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالما» أقول: هذا فهم بعض أهل التفسير لظاهر التفضيل، والقرآن قد أطلق التفضيل ومن ثم فقد يكون التفضيل لهم على غيرهم مع اشتراك غيرهم معهم في مثل ما ذكر من الأسباب. وتفضيلهم على العالمين من أعظم نعمه عليهم، ولكنه خص بالأمر بالتذكر، بعد الأمر بتذكر النعم، لأهمية ذلك، فالعقلية اليهودية منطبع فيها أن اليهود شعب الله المختار مهما فعلوا ومهما أساءوا ومهما أفسدوا، وأن هذه صفة أبدية لهم مهما كفروا ومهما عصوا، ولذلك فإنه يذكر بهذه النعمة ابتداء بين يدي تعداد النعم الذي في طياته التأنيب على الانحراف، ليستقر ذلك على العقوبة الأبدية لهم إن لم يراجعوا أنفسهم في الولوج في حمى الأمة المرحومة أبدا، إن ذكر ذلك على انفراد كما قلنا له أهميته الخاصة.
وبعد هذا التذكير المجمل بالنعم وبالتفضيل يتجه الخطاب إليهم بالتذكير بالآخرة .. وَاتَّقُوا يَوْماً. أي: يوم القيامة الذي من صفاته: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً. أي: لا يغني أحد عن أحد، فلا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة شيئا من الحقوق التي لزمتها وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ الضمير في (منها) يرجع إلى النفس المؤمنة أي لا تقبل منها شفاعة للكافرة فهو كقوله تعالى في سورة المدثر: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ، فهذا أبلغ رد على اليهود الذين يزعمون أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وعلى النصارى الذين يزعمون أن عيسى يحمل عنهم خطاياهم، وعلى أمثالهم، ممن كفر بعد إيمان. وتشبث المعتزلة بالآية في نفي الشفاعة للعصاة من المؤمنين مردود بالنصوص كما سنرى لأن المنفي شفاعة الكفار وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ: أي لا يقبل منها فداء، فالعدل هنا الفدية والبدل وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي لا أحد يعينهم ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، قال ابن جرير: «يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر كما لا يشفع لهم شافع ولا يقبل منهم عدل ولا فدية، بطلت هنالك المحاباة، واضمحلت الرشا والشفاعات، وارتفع من القوم التناصر والتعاون وصار الحكم إلى الجبار، العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها. أقول: وفي تذكيرهم باليوم الآخر وبعض قوانينه الصارمة بعد أمرهم بتذكر النعم وتفضيلهم إشعار لهم أنهم مكلفون ومحاسبون، وأن ذلك يقتضي منهم شكرا لا بطرا، وطاعة لا معصية، قياما بحق الله لا فرارا منه. وهذا يدلنا على أن السياق ... سياق تذكير وتأنيب ودعوة، وهي في النهاية إعطاء دروس لهذه الأمة، ألا تقع فيما وقعت فيه
أمم أخرى.
وللأسف فإن الكثيرين من أبناء أمتنا واقعون فيما وقع فيه اليهود في سيرهم الطويل كما