للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحمد بمجنون كما يقول الجهلة من قومك، المكذبين بما جئتهم به من الهدى والحق المبين، فنسبوك فيه إلى الجنون. قال النسفي: وهو جواب قولهم يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ أقول: إن اتهام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون هو المفر الذي يفر إليه كل مكذب برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم نسمع في عصرنا اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بالصرع وغيره كتعليل لما يحدث له عليه الصلاة والسلام عند الوحي- وحاشاه-، وفي عرض الله عزّ وجل هذه الشبهة بهذا الشكل رد لها فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنعم عليه بأعظم نعمة في الوجود، فكيف تجتمع هذه النعمة مع الجنون؟ إن مثل هذا الكلام لا يقوله إلا إنسان حرم نعمة التفكير،

ثم قال تعالى: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً أي: ثوابا غَيْرَ مَمْنُونٍ أي: غير منقطع. قال ابن كثير: أي: بل إن لك الأجر العظيم، والثواب الجزيل الذي لا ينقطع ولا يبيد على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق، وصبرك على أذاهم. أقول: نفى الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم تهمة الجنون، وذكره بنعمته عليه بالنبوة، وبما أعده له في الآخرة؛ ردا عنه وتسلية له،

ثم أثنى الله عزّ وجل على رسوله الثناء الأعلى فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قال عطية: أي: لعلى أدب عظيم، وقال معمر عن قتادة: سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان خلقه القرآن، قال ابن كثير: ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن أمرا ونهيا سجية له، وخلقا وتطبعه وترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم، وكل خلق جميل. أقول: في الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الثناء الكريم رد على من اتهمه بالجنون، فمن رأى مضمون ما أنعم الله على رسوله من الوحي، ومن عرف كمالات أخلاقه لا يشك أنه ما عرف تاريخ البشرية إنسانا كمحمد صلى الله عليه وسلم، فهل يصح في العقول بعد ذلك أن يتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون؟

ثم وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأوعد أعداءه فقال فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ* بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي فستعلم يا محمد وسيعلم مخالفوك ومكذبوك من المفتون الضال منك ومنهم. والمفتون هو الذي قد افتتن عن الحق وضل عنه، وفسر ابن عباس والنسفي المفتون بالمجنون لأنه فتن- أي: محن- بالجنون

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ قال ابن كثير: أي: هو يعلم تعالى أي الفريقين منكم ومنهم هو المهتدي، ويعلم الحزب الضال عن الحق، وقال النسفي: أي هو أعلم بالمجانين على الحقيقة، وهم الذين ضلوا عن سبيله، وهو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون. أقول: وقد شهد الله وهو الأعلم أن رسوله هو العاقل المهتدي

<<  <  ج: ص:  >  >>